«وحين رفعت أم قدري طفل السيد، ورصعت مؤخرته الضامرة المتكرمشة تلك الرصعة الحازمة المليئة حباً وسمعت الصرخة الشجاعة الحلوة من رئتين تمتلئان بالهواء للمرة الأولى والدم الملوث بالفيروث الفاتك ينقط جارياً من كفيها ومعصميها، رقص قلبها رقصة الانشراح..». الداء- أي داء - ليس بذاته نقمة إلهية أو عقاباً أو لعنة وإن كان تعالى على كل شيء قدير، فالنفر الذين يفسرونه بكونه كذلك، عليهم أن يعللوا لنا مشكورين لماذا يصيب الداء (إن كان كذلك) بل ويموت له وليس بالهرم - أنبياء اصطفاهم الله وطهرهم قبل بعثهم وحتى في حالات المرض التناسلي على أولئك النفر أن يعللوا لنا مشكورين لماذا يضرس الأبناء وما أكلوا هم الحصرم. ولماذا يأخذ رب اسمه الحق والعدل تعالى وحاشاه، البريء بجريرة المذنب وهو الذي حرم على نفسه الظلم فالتبرع بمثل هذه الاجتهادات اللامنطقية التبسيطية الكابية - وإن كان مبعثها كما نعلم الغيرة على العفة والمسلكية القويمة - من دون سلطان بها منه تعالى افتراء بالكذب، وأخطر ما فيها أنها تقلل من قدرة واضعيها ومروجيها من إعلاميين ودعاة أخلاقيين على التعليل العقلاني المتماسك والمقنع في عصر الاكتشافات الطبية المذهلة والاختراقات العلمية الجبارة بما يظهر الدين (وبرؤ من ذلك) وكأنه توأم للعلم التجريبي سوى أنه متخلف عقلياً ويحيل مقولات أولئك الهداة برغم حسن مقصادهم الى مثل شعوذات القرون المظلمة وحيثيات المحارق على الصلبان حين كان المرض العادي يفسر بحلول شيطان في الجسد ناهيك عن الطاعون مثلاً والله أعلم. فلماذا يغضب الحليم اللطيف تنزه سبحانه غضباً حتى الانتقام على طفل نقل اليه بخطأ غير مقصود دماً ملوثاً وما وزر ذلك الطفل وزراً ولا استوجب غضباً وانتقاماً؟ أما الجهل الماحق الآخر المزري بصاحبه والمخزي له حقاً فالذي يعبر عنه هلع ولا هلع الصبية الجهال ينتاب بعض أهل الاستنارة العلمية وجوباً، وبالأخص المنتمين الى المهن الطبية، ممن توقف بهم الاطلاع التحصيلي والمتابعة العلمية عند استلام إجازاتهم الأكاديمية فاعترى مداركهم صدأ فإذا بهم في أمية مقنعة وجهالة بلهاء، غاباً عنهم في مثل حالة هذه السيدة الحبلى (راجع «آفاق» في العدد الفائت من اليوم السابع) ما استيقن منه البحث العلمي في صراعه الجبار وسباقه المنتصر بإذن الله، حول الحقائق الأساسية عن فصائل فيروساته ووسائل عدواه وأساليب ختله وانقضاضه، مؤكداً بالنتائج الجازمة بأن الشخص في أمان تام عند الاحتكاك العادي بالمصاب في الحياة اليومية، ما لم يتحرش الشخص بالفيروس مباشرة عبر معاشرة جنسية من غير واق مطاطي (حتى ولو كانت مجازة اجتماعياً ودينياً) أو بتمثل دم ملوث به بأي طريق كان (ولو بفعل طبي) وعليه فالهلع البهيمي الجهول والجهل الصبياني المذعور (ولا فانعدام الإنسانية تماماً) اللذان أبدى أحدهما أو الآخر إن لم يكونا ذات الشيء ذلك النفر المهني وهم يتفرجون على امرأة تتوجع أمامهم مباشرة بحاجة اليهم مستنكفين عن التدخل الواجب وتقديم المساعدة اللازمة مستمدين أمانهم من الزجاج السميك العازل كمن يشاهد ولادة لبوءة من وراء قضبان قفصها في حديقة للحيوان، أمره عجب بل هو كما أسلفنا القول: جهل مزري وهلع مخزي وتقصير فاحش وفرار من الواجب (وقسوة قلب). في تلك البرهة قادت (أم قدري) قدماها بمشيئة من الله الى ذلك المكان موضع الفرجة الجماعية برخصة أو تلصصاً - أغلب الظن بالطريقة نفسها التي جاءت بغيرها لا سيما باللغط المتصاعد حول ذلك الجدار الزجاجي الذي كثوب الرياء، تساءلت أم قدري في وقارها المعهود ورباطة جأشها الواثقة: ماذا يجري هنا؟ جاءها متبرعاً رد في تنقيز طفل تملكه طرب وحبور: لقد جاء المرأة المصابة بالايدز الطلق، انظريها جاءها الوجع انظري! انظري! أو شيء من هذا القبيل. لم تفهم فاستوضحت في استغراب وحيرة ولماذا هي وحدها لا يساعدها أحد؟ استدارت اليها الرؤوس مستنكرة سؤالها المحرج والساذج والنشاز فكأنها لم تسمع قط بالايدز ولا تعلم إن كل من فقد عقله مخاطراً بالاقتراب من تلك المصابة بالايدز الفتاك سيهجم عليه غول ذلك المرض وأنيابه تقطر دماً لافتراسه في التو وأمام الجميع لا محالة أو كأنها لا تعلم أن قطرة واحدة تطير من دم تلك المرأة المصابة به كافية لإبادتهم كلهم في ثانية ولا قنبلة هيروشيما! لا بل حدجوا المرأة المتسائلة بنظرات الاحتجاج وأسئلتها البايخة تكاد تقتل متعتهم. ما إن تبين لأم قدري حقيقة ما يجري، حتى استلت من صميم صميمها، استلالة ذي الفقار من غمده، انتهارة غضب كبرى ملؤها الاستنكار والاحتقار والاستقظاع. «ايدز» ايه وكلام ايه؟ يا عالم انتو ما عندكوش رحمة ولا خوف من الله؟ ازاي بس تخلوها كده ست غلبانة لوحدها في الحالة دي ازاي؟ شقت طريقها تزيحهم عن أمامها بقوة وكأنهم ذباب تهشه بعيداً عنها في ضجر متجهة بخطوات ثابتة الى غرفة الرعب، الى امرأة منبوذة معزولة وحدها بزجاج مانع تحاماها تماماً الطب، والإنسانية والمروءة والعطف - متروكة تولد نفسها بنفسها كما يفعل إنسان الغاب والكهوف - إن لم نقل الحيوان، وبينما أم قدري تتجه بأقدام مطمئنة ثابتة الى غرفة الرعب حيث كان الموت ينشر عباءته والعيون تتبعها محملقة والأحناك متدلية في ذهول، كانت تشمر بتؤدة أكمامها ترتسم على وجهها صرامة، ينتفي عن قسماتها أي تردد وعن قلبها أي خوف ولعله لو تجسد (الايدز) قاطع طريق يسد عليها ذلك المدخل بذراعيه الجبارتين لأزاحته بانتهارة كالزلزلة وبدفعة رهيبة وتخطته داخله لما أزمعته، هكذا اتجهت مباشرة الى حيث كانت المرأة تتلوى وتئن وتتوجع، لم يخطر لأم قدري تغطية يديها بقفازات المطاط حتى ولا تكترث إن كان بالمرأة ايدز أو لم يكن. وقتئذ تجسدت أم قدري خفقة حنان من فؤاد الرحمن - تعالى علواً كبيراً وتنزه عن كل تشبيه وشبيه - حيال تلك السيدة المتباعدة الرجلين تفسحان الطريق للقادم الجديد، تلك السيدة الفرجة التريكة خلف زجاجهم العازل تجسدت يد الله اللاحقة التي لا تخذل الفازع اليها لحظة الضيق والحرج كانت الإيمان الخالص والشجاعة البحتة وكان قلبها الإسعاف المندفع كالسهم لغياث الملهوف، والجندي المقدام يجازف بحياته في مهجة الخطر لا تخطر له روحه الحلوة على بال حتى الاستشهاد - إن كان لابد - في سبيل الواجب المقدس هكذا لم تعد المرأة حاملة الموت في دمها وحدها الآن، وأم قدري تعيد لها الطمأنينة بالكفاءة المهنية العالية، لم تعد المرأة الوحيدة في معزلها الزجاجي وحدها، فمعها أم قدري صارتا اثنتين والموت ثالثهما، لا بل اثنتين والأمل ثالثهما وحل ثالثهما – الأمل - في صورة طفل وليد. وحين رفعت أم قدري طفل الايدز ورصعت مؤخرته الضامرة المتكرمشة تلك الرصعة الحازمة المليئة حباً، وسمعت الصرخة الشجاعة الحلوة من رئتين تمتلئان بالهواء للمرة الأولى، والدم الملوث بالفيروس الفتاك ينقط جارياً من كفيها ومعصميها رقص قلبها رقصة الارتياح والانشراح التي تعرفها كلما فرجت عن حبلى ساعة الطلق الكربة والكبد، واستقبلت بيديها روحاً زكية جديدة تحمل الأمل والمستقبل.. رقصة ارتياح وانشراح لم يجعلها (الايدز) المتربص بمقربة تختلف البتة عما كانت تحس به عادة في مثل هذا الموقف، حامدة ربها أن تم كل شيء كما تمنت أن يكون بتوفيق من عنده، وبعد أن أنهت مهمتها انصرفت باغتباط وخطى واثقة وضمير مرتاح على حين لم يجرؤ (الايدز) على تلويث أفكارها بخاطرة خوف واحدة، كان هو الذي خافها الجبان - خاف هذه المصرية الشهمة الشجاعة وراء كافة حدود الإمكان والتصور. أكتب هذا لك وعنك يا أم قدري، أنا لا أعرفك وأنت التي لا تقرأينني، أكتب هذا عنك يا سيدتي الجليلة النبيلة الأصيلة، أكتب هذا عنك يا من كان أداء الواجب المقدس واعتمادك على الله وجود نفسك أقوى لديك من الخوف وأقوى من الداء المتحفز وأعتى من الموت المتربص، ثم كان إنقاذ أخرى أهم لديك من إنقاذ نفسك.. أكتب هذا عنك يا أشجع الناس وأكرم الناس، يا من تطأطيء الأوصاف رأسها أمام وصفك عاجزة عن الإنصاف، فتخذل مشاعري الكلمات. وهنا أنا إذ أقبل مئات الجبين أقبل منك اليدين، أقبل منك القدمين، لا أكاد أميز أيكما الماثلة أمامي أنت يا أم قدري، أم هي مصر الحقيقة، مصر الجليلة النبيلة الأصيلة، مصر الشعب الطاهرة النية والطوية، المؤمنة بالله وبالنفس وبالإنسان، فقد وجدتكما معاً أيتها المتماهيتان مثلما كل أم مصرية شريفة لابن مصري شريف - كما أم قدري وقدري - وجدتكما جميعاً وبرغم كثير غثاء ويا له من غثاء، جديرين بالاحترام، جديرين بالمحبة، جديرين بالثناء.