قبل فترة من الزمن ظل يعلن عن قدومه الميمون برائحة زكية معبقة بأريج البهارات القادمة من الهند وحضرموت، وحالة صوفية من العشق تجتاح النفوس، وفي حضرته يغسلون الأحزان ويزيحون الهموم والقلق من الوجدان، وفي ضفافه يجدون لمسة روحية غنية بكل مفردات الوجد الرباني الذي يحلق بالفرد إلى عالم تسمو فيه الأنفاس وتزدهر. لا زال أهلنا في الريف يحتفظون له بذات الطقوس والعادات، هناك في الساحة تحتل «البروش» مكانها منذ وقت مبكر، الصبية الصغار يتسابقون لنظافة المكان، «الصواني» تأخذ طريقها عبر سواعد الرجال، ورغم رقة الحال وظلال العدم فإن ما تحتويه هذه «الصينية» من طعام متنوع يصيب الإنسان بالاندهاش، إنهم يقولون إن بركات هذا الشهر الكريم كثيرة ووفيرة. هناك في العاصمة، ولأن إيقاع الحياة أصبح سريعاً؛ فإن ظاهرة الإفطار الجماعي كادت أن تختفي أو تزول، لا سيما في الأحياء الراقية، التي تتدلى من سقوف غرفها لمبات الكريستال الزئبقية، وثريات النجف اللامعة. هناك في غابات الأسمنت يفضلون تناول الإفطار في الداخل حيث المنضدة المستوردة والمقاعد المريحة، في هذه الأحياء - كما حدثني أحدهم - بأن التواصل بين الجيران يكاد أن يكون في حكم العدم، حيث يتساوى الجميع في الأبهة والفخامة والعظمة والناحية المادية، وكل فرد منهم مكتف ذاتياً، عكس المناطق الطرفية في العاصمة حيث لا زالت «للجيرة» مكانتها ودورها، والمنافع الصغيرة يتم تبادلها عبر السور المشترك، وتابع محدثي الذي يقطن في أحد الأحياء الزاهية، ذهبت أسرة أحد رجال الأعمال في إجازة ترفيهية لعاصمة المعز «القاهرة» وبقي الأب وحيداً في المنزل يتابع أعماله التجارية، وغالباً ما يعود بعد منتصف الليل، وذات ليلة شتائية باردة داهمته نوبة قلبية مفاجئة أودت بحياته، وظل الرجل جثة هامدة في فراشه لعدة أيام ولم يتم التعرف على وفاته إلا من خلال «خفير» المنزل الذي كان في إجازة قصيرة نسبة لسفر الأسرة خارج البلاد. يطل علينا هذا الشهر المبارك، الذي تتضاعف فيه الحسنات، وكثيرون من رجال البر ينتظرون قدومه، وخيمة رمضان التي بدأت تظهر في السنوات الأخيرة عبر عدة مواقع من العاصمة، التي يلجأ إليها الفقراء والمساكين وأصحاب المسغبة؛ هذه الخيمة الطيبة أصبح الكثيرون يشعرون في وجودها بالراحة والاطمئنان، نأمل أن تزداد أعدادها لأن المعدمين أيضاً غير قليل. الشيء الملفت للنظر أنه كلما اقترب شهر الخير والبركات، كلما ارتفعت وتصاعدت الأسعار، بما فيها الفواكه التي تعتبر أمراً مهماً لأهمية المشروب الذي يصنع منها ويحتاجه الصائم في إفطاره، كما أن أسعار السلع الأخرى تأخذ حظها من الدلال وعلو الكعب، الزيت والشاي واللحوم والخضروات بأنواعها، كل هذه الأنواع والسلع والمأكولات يرتفع سعرها دون مبرر، لم أتطرق إلى السكر لأن المساعي لا زالت جارية في أن يكون سعره في متناول اليد. والمرء لا بد أن يتساءل ويرفع عقيرته محتجاً، لماذا هذا التصاعد في الأسعار؟ أين هيبة الدولة؟ أين سلطتها وصولجانها؟ لماذا تترك السوق للمضاربين وللتجار الذين لا يخافون الله؟ إن حرية السوق لا تعني السير فوق جماجم أصحاب الدخول الضعيفة والإمكانيات المتواضعة، إننا نأمل أن تكشر الدولة عن أنيابها وتنحاز لهؤلاء الضعفاء، لأن الوقوف بجانب هؤلاء هو انتصار للحق والفصيلة والعدالة. استعرضت عدد من الفضائيات برامجها خلال شهر رمضان المعظم، الذي يحتاج فيه الإنسان إلى نوع معين من المشاهدة، التي تجمع بين الترويح والترفيه والتسلية وبين الثقافة والتراث والمعلومات والجرعات الروحية والإيمانية، وفي وجهة نظري الخاصة فإنني أرى ما تم استعراضه لا يخرج من جلباب البرامج السابقة لهذا الشهر الكريم، فقط اختلفت الأسماء والمعاني، إلا أنها احتفظت - أي البرامج - بذات المعنى والهدف والغرض، إنهم ذات الشخوص وإن تباينت مواقع التسجيل، وذات العائد والناتج وإن اختلفت الأسماء والألقاب. تمتاز قناة النيل الأزرق التي يقودها الجنرال حسن فضل المولى بنوع من التحرر المعافى، والجرأة المحببة، والمواكبة المطلوبة، وبرامجها في هذا الشهر الكريم إذا لم تكن في قامة وتطلعات المشاهد فإن أصابع اليد اليمنى سوف تلمس بهدوء «الزر» لنمد أنفسنا وعيوننا عبر هذا الفضاء الواسع والمتخم بالعديد من الفضائيات وخاصة العربية، وعلى وجه التحديد القنوات الخليجية، وإذا لم تجد أبصارنا ما يشدها نحو قنواتنا الوطنية فإن معظم العيون سوف تشد الرحال إلى قنوات أخرى أكثر جاذبية وأوفر إبهاراً. في هذا الشهر العظيم يعتقد البعض أن الفرصة مؤاتية للخمول والكسل والنوم العميق، لا سيما داخل مكاتب الدولة، إنه شهر عبادة وطاعة وإحسان، والذهاب إلى المنزل بعد الدوام فيه الكثير من الفوائد، أولاً، اطمئنان الأسرة بوصول عائلها بدلاً من الترقب والانتظار حتى قبل المغيب بدقائق، ومساعدة ربة المنزل في إحضار «لوازم» الإفطار مبكراً مما يتيح لها حرية التصرف في ما تريد عمله وتجهيزه للإفطار، كما أن ساعة الغروب كما يقولون وهو وقت الذروة حيث يتسابق الجميع من أجل الوصول، مما قد يؤدي أحياناً إلى ما لا تحمد عقباه، ونسأل الله السلامة والعافية للجميع، كما أن «المقيل» داخل دواوين الحكومة بعد انتهاء ساعات العمل فيه إهدار للمال العام في عدة زوايا. إن أنبل وأبهى ما في هذا الشهر العظيم هو إسراع الخطى نحو المساجد وبيوت الله، حيث يتدافع الجميع نحوها في محبة وشوق لا سيما صلاة التراويح، ويمثل الشباب العنصر اللافت للنظر، هناك أيضاً من يطلب دفقة من الهواء الرطيب على أعتاب الحدائق العامة، حيث تزدان الخضرة بوجود الكثير من العائلات، وآخرون يتعاملون مع الرياضة بكل جدية خاصة الذين يعانون من الترهل البغيض، تزداد الحركة وتتسع حلقات الأنس واللهو البريء، وتحتضن عدد من الخيام الرمضانية العديد من الأنشطة الروحية والثقافية والغنائية والأدبية، باحات المنازل وساحات الرياضة تغازلها أضواء الثريات إلى وقت متأخر من الليل. في هذا الشهر المبارك، الذي بدأت نسائمه تطل علينا، نسأل الله أن يحمي بلادنا من التمزق والشتات والفتن وأن يظل السودان هذا الوطن الرائع والكبير متحداً كما ورثناه من آبائنا وأجدادنا، وأن ينعم أهله بالاستقرار والحياة المعيشية الهانئة والطيبة، بعد أن صبروا وصابروا وعانوا الأمرين، وأن تظل وحدة البلاد هي الهاجس الذي يؤرق مضاجع الجميع بما فيهم باقان أموم، وأن يعيش أبناء الشمال والجنوب في وئام وإخاء ومحبة يظلهم علم السودان الغالي. { في كلمات ٭ بالمناسبة الخريف لسع في البداية «والغريق لقدام» كما يقولون، وفي زخات المطر التي هطلت على العاصمة في الفترة الماضية نفس الملامح والشبه واللقطات والمشاهد، وبالرغم مما قيل عن استعدادات كاملة لمجابهة مخاطر الخريف. ٭ رغم أننا نمتلك العديد من مصانع الأسمنت إلا أن هذه السلعة المهمة والضرورية سعرها لا يتناسب مع ما نملكه من مصانع، في هذا الجانب سيدي وزير الصناعة لا بد من مراجعة الأمر. ٭ صلاح إدريس تخلى عن الهلال.. وجمال الوالي ترك المريخ.. هؤلاء الرجال قدموا لأنديتهم الكثير وصرفوا بسخاء، وعانوا ما عانوا.. ظلت المعارضة في كلا الناديين تناهض صلاح والوالي، وجدية هذه المعارضة حان وقتها، التقطوا القفاز وقدموا ربع ما قدمه ابن شندي ورجل فداسي.