كانت إذاعة «هنا أم درمان» تنبعث من جوف الماضي شادية بالمجد والبطولة تنشر بنودها وتعلن وجودها في الأندية والمقاهي والوديان وفي كل مكان، تقرأ القرآن وترسل الألحان، تذيع العلم وتشيع اللهو وتنشر البهجة، وكنا نشفّ الآذان دونما ألحان، فقط بسلاسة الحديث وسلامة النطق وبراعة الذهن وطلاقة اللسان في نشرة الأخبار يلقيها على مسامعنا أدباء أجلاء أمثال أبو عاقلة يوسف، صلاح أحمد، محمد صالح فهمي والمبارك ابراهيم أدباء لا يخطئون ولا يلحنون يقلقلون القاف ولا يغيرون الغين، يصيغون الأنباء ويرسلونها ديباجة قوية موشاة برصانة الأسلوب وطلاوة العبارة. كنا نستمع لصوت المقرئ صديق أحمد حمدون ودراسات في القرآن الكريم للدكتور عبدالله الطيب طيّب الله ثراه تحمل الينا نفحات من الفردوس ترطب القلوب وتلين الأكباد. وكانت موسيقى الاستاذ برعي محمد دفع الله تثير اللذة وتصبي المشاعر وتطرد السأم. عشنا مع روائع الغناء والأنغام وبدائع الشعر في براعة الصنع ومهارة الصانع في قصيدة «مات الهوى» للفنان الذي ولد شادياً كما ولد البلبل مغرداً «الفنان عثمان حسين»، القصيدة التي قدمها المذيع بأنها من كلمات الشاعر «صلاح أحمد»، وصلاح أحمد هذا هو الأديب المذيع صاحب الصوت الجهوري ابن الشاعر الفحل الذي يملأ شعاب القلوب بالإعجاب الاستاذ أحمد محمد صالح رئيس مجلس السيادة الأول «بالتناوب»، شاعر دمشق وفينوس الذي تسامت عبقريته في قصيدته لرئيس وزراء جمهورية مصر الأسبق اللواء أركان حرب محمد نجيب التي مطلعها: ما كنت خواناً ولا غداراً كلا... ولم تك يا نجيب جبانا يا صاحب القلب الكبير تحية من أمة أوليتها الإحسانا عرفتك منذ صباح حراً وفياً وآمنت إيمانا وفي «قفشة» من عمالقة اللغة العربية يتوسطهم الشيخ حسن أحمد بشاشا في زيارة خاطفة لصديقهم الأستاذ أحمد محمد صالح بمنزله العامر بشارع السيد علي بأم درمان، وأثناء تناول فنجان القهوة قالوا له يا أستاذنا الجليل «مات الهوى» ولكنك بعثت فينا مشاعر «حر النوى ونار الجوى وبعد الهوى»، فقال لهم إن قصيدة «مات الهوى» هي من كلمات ابني صلاح؟ فقالوا له ضاحكين يا أستاذ يا أستاذ على هامانك؟ أنت قلت في القصيدة «قضيت العمر في هواهم»، ابنك صلاح ود بتين وعمر شنو العندو حتى يقول قضيت العمر في هواهم؟! هذا ما كان من مداعبة المشايخ لصديقهم أحمد محمد صالح نائب مدير المعارف آنذاك. وأنا أضيف بعد أن تقدم بنا العمر لمداعبة مشايخ اللغة العربية: «إن تعلق الشاب في سن صلاح أحمد آنذاك بفتاة لا يوصف بأنه «جنون» ولا ينعت ب«غريب وعجيب» في كلماته (ولما نالوا مرماهم.. جفوني وقالوا حبي جنون وقالوا كتير غريب وعجيب)، ويقول الشاعر في شطرة أخرى (أتاري الحب في دنياهم خداع ونفاق وملعب زور). وهذه تؤكد أنه يشير الى دنيا شباب ذلك الزمان الذين همو في عمر ابنه صلاح، وبالطبع فهي دنيا تختلف عن دنيا والد الشاعر فإن صحت هذه الرواية ولم تكن مجرد فاكهة ونسة فإننا نقدر في الشاعر حشمة مشايخ أهل السودان وأدبهم الجم الذي فرض على الشاعر أن ينسب رائعته «مات الهوى» لابنه صلاح، ولم التجني على شاعر فينوس؟ ألم يقول شاعرنا العربي: وفتانة العينين قتالة الهوى.. إذا نفحت شيخاً روائحها شب «وصار في عمر ابنه صالح». عودة الى إذاعة هنا أم درمان، وأرجو أن لا يفهم من مقدمة حديثي عن إذاعة «هنا أم درمان» أنها لم تتطور معاذ الله، فبالأمس القريب عبرت السنون ولجأت الى اذاعة «هنا أم درمان». بعد أن هجرت التلفاز لا لقصور فيه أو مأخذ عليه وإنما لأن مزاج المشايخ أمثالنا لا ينسجم مع مزاج شباب اليوم الذين يتبعون المسلسلات المستوردة والحق يقال فقد وجدتها أي إذاعة هنا أم درمان مازالت قوية تشدو بالمجد والبطولة والمدنية وتنشر العلم وكان لها دور مشهود في توعية المواطنين في انتخابات عام 2010م. ومن حسن الطالع أن أول ما طرق أذني هو صوت أميرة الشعراء بحق الاستاذة روضة الحاج، ويا لبلاغة اللسان وبراعة الذهن ويا لجرأة القلب ورقة الشعور، فقد طربت وأيم الحق لسلاسة الحديث وسلامة النطق والالتزام بالقواعد النحوية والبلاغية التي انعدمت هذه الأيام. فهنيئاً لاذاعة هنا أم درمان وللسودان وللعالم العربي بروضة الحاج، كانت هي العزاء في من أدركتهم المنية من كبار الأدباء والشعراء من الرعيل الأول والدنيا بخير وأمير الفنانين الأديب الشاعر الفنان عبدالكريم الكابلي يشدو ويثير النفوس بروائع الموسيقى والألحان والدنيا بخير ما دام من بين شعرائنا الاستاذ كامل عبدالماجد يتسامى شعره فيسبي العقول بسحر إلهامه. حاشية: صلاح احمد هو صاحب فكرة بعث الأغنيات السودانية القديمة وتسمية البرنامج ب«حقيبة الفن» كانت من بنات أفكار أستاذ العلوم محمد فتحي أمبابي في بيت السودان بلندن.