في إرثنا السوداني كثير من المسميات ذات الدلالات والمعاني الشاهقة التي يستوجب علينا الوقوف عندها كثيراً، ومن هذه المسميات ما نُطلِق عليه «عَوَج الدرب»، وتكاد لا تخلو بادية من بوادي هذا البلد الفسيح من هذه المعاني، و«عَوَج الدرب» في الإرث السوداني العريق، وقبل أن يعرف الناس صناعة هذه الطرق المسفلتة، هو أن يقوم رجل كبير وكريم بتحويل الطريق العام ليمر من أمام بيته، وذلك ليُمارس نزوعه المُدهش العجيب في إكرام المارة والمسافرين بعد أن يقوم «بقطع الطريق»، لهذا كان «إعوجاج» بعض الطرق هو دلالة على استقامة بعض الناس والمَكْرمات، ولما نهضت الطرق الحديثة بخرائط سير مستقيمة حسبما تنص الهندسة المدنية الحديثة التي كما لو أنها لا تعترف بذلك «الإعوجاج» القديم، تحوّل السودانيون إلى ممارسة قيمهم النبيلة على طُرق الأسفلت، أي والله، بل يحتدم الآن في شهر رمضان شهر الإنفاق والقرآن، وحدثنا أمس الأول صديقنا الدكتور صالح سينين الأستاذ بجامعة القرآن الكريم ودمدني، بينما هو عائد من الجزيرة إلى الخرطوم، إذا بجماعة من قرى المسيد وقبيل الإفطار يقطعون الطريق على حافلتهم السياحية ويجبرون كل ركاب البص على الإفطار بموائدهم العامرة، قلت لصديقي هذا «إذن.. إن ثقافة التمدُّن والتحضُّر التي لم تعترف بإعوجاج الطرق لم تفلح في تلك العادات والقيم الكريمة، فترك الأهالي ثقافة «الإعوجاج» التي كانوا يصطادون بها المسافرين، واعتمدوا بدلاً عنها ثقافة قطع الطرقات الحديثة، إذن.. هذه ثقافة أجبر وأقوى من كل أسفلت الدنيا وأنفاقها وطرقاتها المعبّدة، تتغير صناعة الطرقات ولا تتغير هذه الصناعة المحلية، أعني صناعة إكرام الضيف، تحولات كبيرة حدثت على وجه كوكبنا ليس بإمكانها أن تحول بين هذا الشعب وقيمه، فتضرب العالم بأسره ما يعرف ب«الأزمة المالية» التي قد أخذنا منها أنصبتنا لنزداد فقراً على فقر، والاحصائيات تترى بأن هذه الأمة السودانية تعيش تحت «خط الفقر»، ثم تخرج تلك «الصواني» العامرة من تلك القرى و(الحلاّل والفرقان) لتهزم كل احصائياتهم وتربك كل تقديراتهم، فهذا الشعب الفقير الغني، الغني الفقير لن يُهزم أبداً من فقر لطالما هو الغني بقيمه ومكتسباته، كما لو أننا نرتكز على قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «والله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم فتنافسوها كما تنافسها الذين من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم». والناس هنا يتساوون في فضيلة خروجهم إلى الطرقات العامة برغم اختلاف ما يحملون وما يقدمون كل على حسب مقدرته، وليس هنالك أكرم وأعظم من أن تخرج للناس بما تملك، ويحضرني في هذا المقام قول ذلك الأعرابي: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب فما الخصب للأضياف أن يكثُر القِرى ولكن وجه الكريم خصيب لا النفط ولا مشتقات النفط ولا أنبوب النفط ولا صهاريجه ومصافيه الشاهقة، ولا النيل ولا ماء النيل، ولا أناشيد الوحدة وتراتيلها، ولا كل ذلك ولا غيره، يمكن أن يحفظ توازن وتماسك هذا البلد ويعصمه من التشظّي والانشطار والاحتراب، بقدر ما تعصمنا هذه القيم وهذه المعاني، فمقدار القيم التي يمكن أن تصنعها (صينية مواطن فقير) من قرى الجزيرة يجتمع حولها أناس من الشرق والجنوب والشمال والغرب، لا يمكن لأي ثروة وسلطة أن تصنعها، فما أن تمسّكنا بهذه القيم لن نضِل ولا نشقى. وبالمناسبة إن «التعايش ورتق النسيج الاجتماعي» هي صناعة شعبية بالدرجة الأولى، قبل أن تكون رسمية. { شيء آخر ذي صلة. فقبل أن يجف مداد نداءنا هنا أمس الأول، لنجدة طفلة فقدت نعمة السمع، حتى هبّ أحد هؤلاء الكرماء لنجدتها، مشترطاً ألا يذكر اسمه ولا رسمه. اللهم أجزه بقدر ما يجزى الصائمون القائمون المنفقون، أجزه اللهم بغير حساب، وأدِم اللهم فينا هذه المعاني وتقبلها يا رب العالمين.