{ تكتفي أمي رعاها الله وأبقاها بنصيبها من وظيفتي الكتابية بالصحف ومنذ مواسمي الأولى بأن تلّف جرجيرها ومحمرّ بطاطسها وأسماكها وتجفيف (خدرتها) بورق جرائدي العزيز. تحتفل بي يومياً وبما أكتب بأن تمضغني وحروفي المتحللة ومتداخلة في مسامات وجباتها المحمّرة لناس البيت والضيوف. وحينما تدفعني حميتي الصحفية بأن أثور على وجباتها بعدم صحية لفها بالجرائد وما يلي معدتنا من حبر المطابع تقول لا مبالية بنزعتي الغيورة: (الله كفيل بينا من شر الجرائد)! { وللجرائد شر لا يكتفي بكربون حبر مطابعها ولا يكف من إزعاج مجلسها وإداراتها والمطابع وكل من يليه ومن له صلة بها تبدأ من تصديقات العمل وفريق العمل الإداري والتحريري فيها ولا تنتهي بالسرّيحة ومؤجري الجرائد بالباطن من صاحب المكتبة المستفيد من مال الجريدة (تلتو) ويعيد (كتلتو) للراجع في مخازن الجريدة ويكون التقرير اليومي لإدارة التوزيع هو ضعف نسبة التوزيع داخل العاصمة! { عقب عودته من خارج العاصمة الى داخل (الأهرام اليوم) وانسني الزميل (عزمي) عن رحلته الكسلاوية ذات الخمسة أحزان وكيف أنهم هناك يحولون الصحفيين والكُتّاب الى أبطال أسطوريين من خلال ما يقرأونه منهم عبر شاشة (الأهرام اليوم) أو الصحف الأخرى حتى أنه لم يستطع إجابة سؤاله لنفسه كيف لا أرى قريباً ما يرونه هم بعيداً جداً؟! وداخلنا زميلنا (ياسر) العائد من شمالية شندي أن الصحف يقرأها الولائيون أكثر من العاصميين ولو كانوا أبناء الولايات داخل العاصمة مكاناً لشيء في تكوينهم يجعلهم قراءون أكثر ويتميزون بخاصية التصحف والتثقف أكثر من أهل العاصمة الذين يضبطون أعصابهم وأذواقهم على تردد القنوات الفضائية وتنقلات أزرار الريموت والكيبورد والفيس بوك يتركون الصحف للف المحمر من السمك والمتسخ من ثياب المبيت خارج المنزل! { ومن داخل غرفة النقل الجوي الأسبوع الماضي أعلن كابتن (سيف الدين زروق) قيام رحلات الجرائد الجوية اليومية بالاتفاق مع المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الى الولايات الجنوبية رابطة أحزمة الأمان التوزيعي وهابطة بسلام على مدرجات عيون وعقول أهل الولايات الجنوبية ولا شك ميزانيات التوزيع لإدارات الصحف.. بثقل ورقي حوالى المئة كيلو يومياً وبشكل مستمر ومستقر بإذن الله ستنتشر الجرائد داخل الولايات الجنوبية منفذاً جديداً لعملية توزيع الجرائد في السودان. { وقد تبدو البشرى متأخرة سنوات عقب إنفاذ اتفاقية السلام الشامل وقد تبدو مقصرة تجاه ولايات أخرى داخل السودان لكنها فتح معين لتوطين الصحافة في السودان عموم ومحاولة جادة من مجلسها لإعادة تنظيف بلاطها مما علق فيه من طين أقدام السريحة ومؤجري الصحف وخلل التوزيع خارج العاصمة للولايات بخلق سوق مختلفة تماما لقراء مختلفين وقضايا مختلفة بل وحتى حوارات مختلفة تماماً من التركيز الصحافي المركزي داخل الخرطوم حيث أنه ومهما بلغ رقم طباعة صحيفة من خانة الآلاف إلى خانة بضع عشرات من الآلاف لأفضلها توزيعاً في السودان أو الخرطوم فإنه لن يتجاوز وفي الحقيقة لا يصل الخمسين ألفاً أبداً مقابل نسبة سكان داخل العاصمة تفوق الخمسة ملايين مواطن ده غير الأجانب والوافدين يومياً بحسب آخر تعداد سكاني. فالسكن العاصمي له مغرياته وتفاصيله اليومية التي لا تدخل الجرائد ضمن وجباتها المفضلة مهما بلغت من أحمر الخطوط أو أصفرها ومهما رفعت رقبتها ورقابتها عن تناول المسكوتات ومدفونات في بطن حوت المحاذير الاجتماعية والتقليدية فإنها ببساطة لا تغطي إلا عورة الحاجات اليومية لمنصرفات الجريدة من بنياتها التحتية لمتحولاتها الشهرية. { سنوياً ولمدى بعيد كنظرة أهل الولايات لنا يبقى التوزيع هو مصدر الرزق والقلق لكل إداري لصحيفة مهما بلغت ميزانياتها من فتح فهو ما ينسحب على تطورها وبقائها على مدى الحياة الصحفية محترمة تكترث للمادة الصحفية المفيدة للناس بعيداً عن المادة الإعلانية التي تفيد خزانة صرفها ومنصرفاتها. فبصرف النظر عن الجملة القديمة للتطور التكنولوجي (إن العالم أصبح قرية صغيرة) فإننا من داخل هذه القرية والمدينة لم نحسن توزيع الجرائد لتحسين حالها وحالنا أو قضاياها على كافة أهل السودان كما نشاهده على شاشات الفضائيات المحلية أو الإقليمية أو العالمية، التوزيع المتزن والمرتب والمتناسق مع التحديات الكبيرة التي تواجه قريتنا الداخلية والدليل تدويل مستمر لقضايانا وتحليل مزعج لها وكأنما داخلياً نفتقر ونفتقد للمحللين والمنسقين الداخلين انظروا الى قضية معسكر كلمة. { إن الصحافة، كمسيطرة على سوق الكلمة المسموعة والمشاهدة والمرئية، هي التي تتكفل بإعادة التسويق للمجددات في الفكر والثقافة والفن وحتى الأخلاق الجيدة طبعاً والسياسة والاقتصاد وباختصار لكافة الأفكار الإنسانية والتوزيع المتوازن للقضايا العامة التي تعني فئات دون غيرها كما حدث في غرق شندي وكهرباء كسلا.. هو الذي يكفل رقيها واحترامها من الناس وللناس. { والناس يريدون، بلا شك، الجرائد يقرأونها يحلون كلماتها المتقاطعة يستطلعون مسبقاً حظهم يقصون صورة لنجم رياضة أو فن يلصقونها على جانب ركشة أو - ضلفة دولاب - يغالطون أخبار رجالات الدولة والزعماء السياسيون يبحثون بفضول ممعن في قصص الحوارات الجريئة يلفون بورقها وجباتهم وملابسهم وأحذيتهم ويتركون لنا أن ننعم بشرها أو خيرها.