مرة قبل 15 سنة في هذه الزاوية، وطبعاً في جريدة أخرى، نشرتُ مقالاً لمحامٍ شاب من أسرة الزبير حمد الملك وكان عن بعض الدناقلة وارتباطهم بمهن محددة، وهي مهن شريفة وعائدها رزق حلال، لكن أولئك البعض رأوا في ما كُتب إساءة لا تُغتفر فذهبوا محتجين إلى الوالي في دنقلا وقد تعاطف معهم، ويُقال إنه نزل إلى الشارع وهتف معهم ضد الجريدة وضد العمود الذي نُشر فيه المقال وهو عمود «قمم وسفوح» وضد كاتب المقال المحامي وضد صاحب العمود. ولم يكتفوا بذلك، بل جاءوا إلى الخرطوم وقابلوا اللواء الزبير محمد صالح الذي حوّلهم إلى مسؤول آخر وقد طلب منهم أن يحلوا المسألة مع رئيس التحرير الأستاذ حسين خوجلي. وذات نهار طلب الأستاذ حسين أن أقابله في مكتبه بعمارة الفيحاء لأجد الوفد (الدنقلاوي) وكان مؤلفاً من أربعة أو خمسة ممن وهبهم الله بسطة في الجسم وكانوا يرغون ويزبدون وكان الغضب الجامح يتطاير من عيونهم، فطلبوا أن تعتذر الجريدة عن الإساءة التي ألحقها بهم مقال المحامي الشاب المنشور في «قمم وسفوح». ورفض الأستاذ حسين أن يعتذر وقال إن ذلك ليس وارداً بالمرة لكنهم يستطيعون أن يردوا وسوف يُنشر ردهم، وقد كان. وهذه واحدة. وأما الثانية فمن الجنوب، ففي ذات نهار وفي «ألوان» أيضاً جاءني في المكتب شاب جنوبي في مقتبل العمر يتطاير الشرر من عينيه. والحكاية أنني كنتُ قد كتبت ما خلاصته أن إسهام الجنوبيين في الحوادث الكبرى التي عاشها الوطن في القرن العشرين ضئيل، فباستثناء دورهم الشاهق في ثورة 24 وقد كان إسهامهم هنا نوعياً أكثر منه كمياً، فالغالبية الساحقة من قادة وجماهير ثورة 24 كانت من الشماليين، باستثناء هذا الدور الجنوبي النوعي الشاهق في ثورة 24 فإن إسهام الجنوب في الحوادث الكبرى التي مرّ بها الوطن في القرن العشرين كان ضئيلاً، فنحن بالكاد مثلاً نجد ضمن قادة مؤتمر الخريجين ومؤسسيه جنوبيين في عدد أصابع اليد. وقال لي الشاب الجنوبي إن زملاءه في الجامعة في قمة الغضب بل إن بعضهم قرّر ضربي.. (كده.. مرة واحدة) ويا للهول!! كما كان يقول المسرحي الكبير المصري الراحل يوسف وهبي، وكان الشاب الجنوبي يحمل أمراً بالمثول أمام نيابة الصحافيين. فذهبت في اليوم المحدد ومن باب الاحتياط اصطحبت معي ثلاثة من الأهل من ذوي البسطة في الجسم!! ولم يجد المحقق شيئاً يستحق وطلب من الشاكي أن يرد بمقال. حكايتان واحدة من الشمال والأخرى من الجنوب، وفي مقدمة ما يُستنتج منهما أننا في أعماقنا لسنا ديمقراطيين، وثقافة الحوار لم تتجذّر فينا بعد. فالمقال يُرد عليه بمقال، ولا داعي لتشتيت انتباه وتركيز المسؤولين عن قضايا الجماهير المُلحّة. وتؤكد الحكاية الجنوبية أن طلبة الجامعة لم يتحرروا بعد من الالتجاء إلى الضرب بالأيدي و(العكاكيز) والسيخ، ولا نظلمهم فالعادة القبيحة الهمجية ترجع إلى أيام كُنا طلبة جامعيين، ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.