كانت الوحدة الحقيقية التي تمت بين دولتين عربيتين في العصر الحديث، هي تلك التي كان طرفاها مصر وسوريا. وقد تحققت في فبراير عام 1958م فأصبحت الدولتان دولة واحدة حملت اسم الجمهورية العربية المتحدة وأصبحت العاصمة هي القاهرة والرئيس هو جمال عبد الناصر. ولم تستمر تلك الوحدة التي هتف لها الشارع العربي من المحيط إلى الخليج سوى ثلاثة أعوام وسبعة أشهر فقد سقطت بانقلاب عسكري يوم 28 سبتمبر 1961م وكانت هناك أسباب كثيرة لهذا السقوط السريع وهي أسباب مصرية وسورية وعربية وإسرائيلية وعالمية. وقد أفاض الصحافيون والمؤرخون في سردها. وبعد ذلك تكررت التجارب والمحاولات الوحدوية داخل العالم العربي ولكن لم يكن لأي منها بريق وجدية وثقل تجربة الوحدة المصرية السورية. ولتراكم التجارب الوحدوية العربية الفاشلة أصبح الحديث عن الوحدة العربية مثار تندُّر وتهكُّم داخل العالم العربي وخارجه. وقبل الوحدة المصرية السورية كان هناك مشروع وحدة شهير وقديم يرجع إلى أيام سعد زغلول وجمعية اللواء الأبيض التي كان أبرز قادتها عبيد حاج الأمين وعلي عبد اللطيف. ومنذ ذلك الوقت وربما قبله كانت مصر - ملكاً وباشوات وبكوات وأفندية وفلاحين - ترى أن السودان قطعة منها، ولعل التعبير الأنسب لعلاقة السودان ومصر هو ذلك الذي صكه مؤسس الأخوان المسلمين الشيخ حسن البنا ونصه: أن مصر هي السودان الشمالي والسودان هو مصر الجنوبية. لكن السودان ومنذ أيام علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين لم يكن كله مؤمناً وطامحاً إلى الوحدة مع مصر، ففي داخل السودان الشمالي تحديداً كانت هناك قطاعات واسعة تنشد الاستقلال وتهتف بأن السودان للسودانيين. وقد استقل السودان فعلاً منتصف خمسينيات القرن الماضي ثم مرت مياه كثيرة تحت الجسر كما يقولون وأصبح استمرار وحدة السودان احتمالاً! وفي هذا الوقت بالتحديد تجددت الدعوة للوحدة مع مصر، وهي دعوة لا يشك أحد في نبلها وسموها ولا في وطنية القائمين عليها. وكان من رأينا أن التوقيت ليس مناسباً والعاجل الآن هو أن نعيد ترتيب البيت. والسودان بوضعه الحالي والمرتقب موحداً كان أو منقسماً لن يكون إضافة إلى مصر بل الصحيح أنه سوف يكون عبئاً ثقيلاً عليها. ومصر نفسها تعاني الكثير في هذه الفترة الغامضة المخيفة المفتقرة إلى الحد الأدنى من اليقين وهي لن تكون بوضعها الحالي إضافة للسودان موحداً كان أو منقسماً. والدعوة للوحدة مع مصر في هذا الوقت تُعطي الإحساس بأننا في السودان الشمالي - الذي انطلقت منه هذه الدعوة - عاجزون عن حماية ترابنا الوطني وهويتنا التي من أبعادها الأساسية البُعد العربي المسلم. ولقد يُُقال (طيب مالو) أو أين الضرر وأين الخطأ في ذلك؟ وأليست الوحدة أصلاً تُنشد لتحقيق المزيد من القوة والغني والأمن والإزدهار واليقين؟ ولنا عودة،،