{ إنه أمر محزن، وهو أمر حقيقي كذلك، أن يكون الحديث عن الزراعة بهذا العسر ومنذ مدة طويلة وأن يكون السيد وزير الزراعة موجوداً في برج وزاري ينظر من أعلى إلى المشاريع المتهالكة والمزارعين الفقراء، غير آبهٍ سوى لحجم الاستثمارات الأجنبية. { ونعرف أنه لم يحدث فتح زراعي قط منذ أوائل حكومة الإنقاذ وحتى الحكومة الوطنية والى الآن، فلا أعرف ماذا تسمى هذه المرحلة من الحكم؟ بل على العكس تماماً، انهيارات على مستوى المشاريع الكبرى التي كانت تمثل أملاً زراعياً للسودان والقرن الأفريقي كمشروع (الجزيرة) المتداعي لأسباب تتعلق باتحاد المزارعين والري والحفارات والتقاوي ...إلخ.. ناهيك عن مشاكل زراعة القمح، الذي لم يَعِرْهُ وزير الزراعة بالاً أو حلاً من الأصل، ومشاريع (الدالي والمزموم)، ومشروع (حلفا الزراعي) و(سندس الزراعي) بحلقاته المطوّلة للفساد. وهي حقائق في مجملها دون تفصيل دقيق تغاضت عنها العقول الزراعية والقانونية والوزارية بذاتها لأسباب تتعلق بعدم الوضوح والشفافية في طرح القضايا العامة، أو فلنقل الحريات المتاحة لإمكانية معاقبة أي مسؤول في أي مكان دون التقيُّد بالحذر ومراعاة فروق المناصب، حتى يرعوي الآخرون الأقل درجات وظيفية. وبالطبع الفكرة القديمة لمسألة أهل الثقة لا الخبرة المنتشرة في مجال الزراعة جداً، رغم خصوصيته ضرورة الحصول على الخبرة والعلمية فيه. كل ذلك مثل عذراً شرعياً أكسب كثيرين الشجاعة لنشر الفساد والمصالح الشخصية؛ بكسر حاجز الفائدة العامة والدخول الى الفائدة الخاصة. { لكن وبعد أن انكسرت البلورة السحرية لأمنيات البترول وعرف المستثمرون، وقبلهم الدولة، أنه أكبر فقاعة يمكن أن تعيش فيها خزانة دولة مهما بلغ مخزونها الإستراتيجي منه داخل قشرتها الأرضية، طفق العالم الذكي يتجه الى الاستثمار الحقيقي والناجح، إذا توفرت له كافة الظروف الصالحة، وهو الزراعة إن كانت مكشوفة أو محمية؛ باعتبارها الخلاص لكل دولة من جحيم الديون والفقر ولا شك الاستعمار (فالحاجة الغذائية تؤدي إلى استعباد الإنسان لأخيه الإنسان). كما أنه كاستثمار لا يتعرض للجفاف ونهاية الصلاحية، كما يحدث للآبار البترولية. { لكن رغم كل ذاك يبدو أن السيد عبد الحليم المتعافي، وزير الزراعة، يؤثر السلامة الوزارية والحفاظ على المنصب بدون اجتهادات بالغة في ما يتعلق بخطط مجهولة للأمان الزراعي، خاصةً وأن ملفات المشاريع القديمة التي أرهقها الفساد تتحدث بلسان صدق بين المزارعين، ويحبذ أن يستضيف مؤتمراً للفاو عن مستقبل الزراعة في الشرق الأدنى وأن يفتتح مشروعاً لمستثمرين أجانب وأن يجلب بيوتاً محمية؛ على أن يبادر بالحلول الجوهرية لمشاكل الزراعة في السودان، أو حتى أن يخلق حراكاً وزارياً جيداً باعتبار أن وزارته هي أهم وزارة في المرحلة القادمة (في الحقيقة هي الأهمّ في كل مرحلة) على المستوى المحلي والإقليمي. فما يعرفه (المتعافي) كوزير في ما يخص نجاح الزراعة في السودان وفتحها لباب الخلاص من كل المشاكل والديون الخارجية والحروب الداخلية؛ لا يتوافق وصمته المفعم بالابتسام ومحاولاته (المحمية) بأن يريح الدولة من عنائها ومصروفاتها ومشاكل مزارعيها ومطالبات بنوكها؛ بتركها خالصة للاستثمار يفعل بها ما يريد، ولا يتلاءم ومع صمته عن المرافعات الدفاعية لسياساته الوزارية وعن الاستدعاءات البرلمانية وفشل المواسم الزراعية ولا يتوافق أيضاً مع نوع الخصخصة غير المعلنة التي يمارسها على القطاع الزراعي أو، على أقل افتراض، مع انتهاجه القوي لقصة كتاب المطالعة القديم (الفول فولي، زرعته وحدي)، بأن الزراعة وزارته وحده، يزرعها وحده، ويحصدها وحده، وبالتأكيد يستثمرها وحده!