اتفاقية نيفاشا للسلام تدخل إلى خواتيمها، وهناك جدل كثير واتهامات بين الشريكين، وهناك آراء عدَّة حول الاتفاقية نفسها. وللوقوف على هذه الاتهامات والآراء؛ استضاف برنامج (حتى تكتمل الصورة) بقناة النيل الأزرق بالأمس الأستاذ سيد الخطيب؛ مدير مركز الدراسات الإستراتيجية، وأحد مفاوضي وفد الحكومة منذ انطلاق ماراثون التفاوض في مشاكوس 2002م، وحتى الآن. {العبرة بالخواتيم كما يقال، والاتفاقية التي وقعتموها مع الحركة الشعبية لا تقود إلى الوحدة الآن، وهناك صمت في الاتفاقية عن الانفصال، وارتباك بشأن مآل هذه الاتفاقية، ألم تضعوا في الحسبان الانفصال؟ وهل كانت الاتفاقية مبنية على حسن النوايا ولذلك برزت الآن صدمتها بشأن الانفصال؟ - دعني أبدأ بالتعليق على الارتباك الذي أشرت إليه، وهو ماثل في وسائط الإعلام، فتسمع وتشاهد الكثير من الحديث عما نستقبله في الأيام القادمة، كأنه أمر لم يقضَ منذ أكثر من ثماني سنوات؛ حق تقرير المصير بما فيه الانفصال إذا أراد الجنوب ذلك، وكثيرون يتحدثون كما لو كان هذا اكتشافاً جديداً، بمن فيهم سياسيون مجربون، وقادة في المؤتمر الوطني نفسه، وما ألمحت إليه من حسن النية كان موجوداً في الواقع، وكنت حينها أرجِّح الوحدة، لأسباب عدَّة أهمها أن الحركة التي لم تكن قد تحولت إلى حزب حينها، قامت على رؤية وحدوية، صحيح أنَّه ليست هناك ضمانة محفورة على الصخر تؤكد أنها وحدوية، أو ضمانة على أنها تعني ما تقول عندما تتحدث عن الوحدة، لكن العلامات تشير إلى أن الحركة تحت قيادة جون قرنق كانت وحدوية، ودخلت تاريخياً في انشقاقات وعنف بسبب رؤية الوحدة، ويبدو أن غياب قرنق عن زعامة الحركة كان عاملاً مؤثراً في تحول موقفها. { لكن من ينظر في الاتفاقية، يجد غياباً كاملاً لأي إجراءات أو مبادئ يمكن أن تتبع حال حدوث الانفصال، لكأنَّ واضعي الاتفاقية أغفلوه تماماً؟ - نتوقع من طبقة السياسيين والإعلاميين أن يطلعوا على الاتفاقية بتفاصيلها، والاتفاقية بنيت لبنة لبنة، على أساس الوحدة، وهي محاولة لجعل الوحدة ممكنة، وإذا كانت الوحدة ممكنة وفيها مصلحة؛ فيجب أن تكون بطبيعتها جاذبة، ولا زلت أرى أن مصلحة الشعب السوداني في الشمال والجنوب هي في الوحدة. { ما الذي حدث إذن، لا سيما أن الحركة كان لها مشروع سياسي هو السودان الجديد، هل تظن أن الانفصال هو رد فعل لفشل هذا المشروع؟ - من حق الحركة كحزب سياسي في إطار السودان الواحد أن يكون لها مشروع سياسي، والحركة انسحبت من مشروع السودان الجديد، وعلى أيام المفاوضات كان يمكن للمراقب أن يستشف من مواقفها بواكير هذا الانسحاب، ومع بداية المرحلة الانتقالية صار الانسحاب كاملاً، وتمثَّل في ادخارها كوادرها العليا للجنوب، ومعظم وزرائها المركزيين لم يكونوا يلقون للعمل بالاً، والشيء المختلف الذي قدمته الحركة قبل الاتفاقية كان حديثها عن السودان كله، لتصبح أول حركة جنوبية تفعل ذلك، فيما كانت الحركات التي سبقتها أو عاصرتها لا تتحدث إلا عن الجنوب ومظالمه وما ينبغي أن يكون عليه، وكل الخلافات التي شهدتها مراحل تنفيذ الاتفاقية لم تكن حول أشياء بعيدة عما يعني الجنوب مباشرة، لترتد بذلك الحركة إلى تراث الحركات الجنوبية قبلها، ويشير هذا كله إلى أن بدايات انسحاب الحركة من مشروعها منذ أيام المفاوضات استمر بوتيرة متسارعة بعد الاتفاقية. { هناك من يقول إن (الوطني) أيضاً انسحب من المشروع الحضاري، لا سيما أن الاتفاق صُمِّم كمقايضة بين حق تقرير المصير والشريعة؟ - أهم الملامح التي يمكن أن يشار إليها في مشروع إسلامي لكل جوانب الحياة، هو وضع غير المسلمين في هذا المشروع، والاتفاقية خاطبت هذا الجانب المهم، فنحن في وطن متعدد، فكيف يمكن أن يكون هناك مشروع إسلامي لهذا الوطن؟ وما هي حقوق هؤلاء؟ والاتفاقية خاطبت هذه القضية وكانت المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات في الاتفاقية، دون إخلال بالقانون وما تريده أغلبية الشعب السوداني، ولا يمكن في أي بلد إسلامي قائم اليوم أن يقوم مشروع إسلامي جاد له فرصة أن يعبِّر ليس فقط عن حاجات العصر وإنما عن حقيقة إسلاميته، بأن ينظر إلى حقوق الأقليات الدينية خاصة، فكيف يمكن أن يقال إن الاتفاقية بمخاطبتها لهذا الأمر المفصلي في المجتمع الإسلامي المعاصر قد انسحبت من المشروع الإسلامي؟ هذا تقدُّم في المشروع وليس انسحاباً، وفي ما يسمى بالمشروع الحضاري هناك أشياء جزئية أخرى، وإذا كان الناس يتحدثون عن غياب بعض الجزئيات وخفوت صوتها فهذا شيء آخر، لكن الأساسيات ما زالت موجودة، وما زال التحدي أن يقوم هذا المشروع، وألا تُمسّ حقوق الآخرين في نفس الوقت. { البعض في الشارع يقول إن المفاوض الشمالي قدم تنازلات أكثر مما يجب بناء على وعد اسمه الوحدة، وخُدع (الوطني)، وفي خواتيم الاتفاقية لم يقبض الوحدة؟ - ليس صحيحاً، أولاً الاتفاقية كانت موجهة إلى وقف الحرب، وهذا هدفها الأول، فالحرب في جولتها الأخيرة لمدة (22) عاماً، وهي حرب أهلية بين أبناء الوطن الواحد، كانت لها مبرراتها الوجيهة عندما بدأت، ولكن ليس هناك خلاف، في أي عهد من عهود الاستقلال، أن كل الحكومات كانت تقول إنها ترغب في وقف هذه الحرب لأنها حرب مفروضة، لأن التمرد المسلح على أية دولة غير مقبول، ولكن كان هناك اعتراف بأن هناك مظالم تاريخية يجب أن تُخاطب، وأن الحرب لم تؤذ الجنوب فقط بل كل البلاد، وفرصة الوحدة الوطنية الحقيقية، وآذت أي مشروع إسلامي أو اشتراكي في ظل حرب تقوم بها الحكومة في جزء من أجزاء الوطن. ثانياً، توخينا فعلاً أن تستمر الوحدة، وقدمنا في هذا السبيل ما نسميه ترتيبات لا غنى عنها ليستمر الوطن موحداً، ويسميه الآخرون تنازلات، ومنها اقتسام السلطة، وكثير من الناس اعتقدوا أن هذا أمر جديد، لكن نظام الدولة الحديثة يقوم على قسمة السلطة نوعياً وكمياً، فأنت تقسم السلطة من أعلى إلى أسفل، وأفقياً كذلك، القضائية والتشريعية والتنفيذية، وداخل التنفيذية تحدد حق أهل المحليات، ونصيبهم في حكم أنفسهم، وما نصيب المركز الذي يمثل الناس جميعاً، وقسمة السلطة ليست ابتداعاً لاتفاقية السلام، وقسمة الثروة موجودة منذ كانت هناك دولة، وفي التراث الإسلامي هناك تشريعات وعبادات تعمل بهدف تقسيم الثروة بين الناس، وهل لأهل الإقليم المعيَّن نصيب في الثروة المستفادة من إقليمهم؟ وما هو هذا النصيب، والفيدرالية لا قوام لها بغير ذلك، وهذا ليس تشجيعاً لأن يستبدّ كلٌّ بما هو عنده، وإنما هو تشجيع لأن يأخذ كلٌّ مما عنده ويذهب شيء إلى مركز هذا الوطن، ولا أرى تنازلات في هذا، ومن الأشياء القليلة التي يمكن أن تسمى تنازلاً هي وجود الجيش الشعبي أثناء الاتفاقية، وكان خيارنا الأول أن يكون هناك دمج وتسريح واستيعاب للقوات مثلما حدث في اتفاقية أديس أبابا، والخيار الثاني -وهو طبيعي- كان أن يظل الجيشان موجوديْن أثناء فترة الهدنة، وهذا جوهر أي اتفاق لوقف إطلاق النار، وما تم الاتفاق عليه هو شيء بين الخيارين: أن يكون الجيش الشعبي موجوداً في معسكراته، وأن تكون هناك وحدات مدمجة مشتركة تشكل نواة لقوات مسلحة سودانية في المستقبل، وأن تمضي بها إلى الوحدة، وهو ترتيب عملي من أجل وقف الحرب وطمأنة الإخوة الجنوبيين أنَّ ليست هناك نية للغدر والانقلاب عليهم بعد التوقيع، والقوات المسلحة كانت تنظر إلى هذه الخيارات على هذا الأساس. { هناك من يقول إن المفاوض الحكومي كان تحت ضغط دولي، وأن الاتفاقية في أصلها اتفاقية أمريكية تم اقتراحها في أحد مراكز الدراسات الإستراتيجية في أمريكا عام 2001م؛ مقترح دولة واحدة بنظامين، وتم تطبيقه بالكامل في اتفاقية نيفاشا؟ - هذا الاتهام دار كثيراً، وفي ندوة في دار المحامين في أواخر 2003 قال المرحوم عمر نور الدائم هذا الكلام وقال: «الحكاية دي ممضية ممضية»، وأنا أنفي هذا الاتهام بالكامل. { هل صحيح أن هذا المشروع طُرح في هذا المركز عام 2001م؟ - ما طرح في مركز (سي إس آي إس) هو ورقة سميت (بلد واحد بنظامين)، وفي ذلك الوقت كانت مفاوضات السلام التي ترعاها الإيقاد قد مضت عليها ثماني سنوات منذ توقيع إعلان المبادئ في 1994م، والإسهام هذا كان له أثر في أن تصبح المفاوضات جادة أكثر، لكن لم يكن له أثر في محتوى المفاوضات، وهذا الإسهام كان تعبيراً عن تغير السياسة الأمريكية التي كانت سياسة عزل لحكومة الخرطوم في عهد كلينتون، وكانت تشبه سياسة الحرب، لدرجة تسمية دول الجوار دول المواجهة، وكانت هناك مساع للعزل تنتهي إلى تغيير النظام، ومع نهايات فترة كلينتون انبلج الضوء على تلك الإدارة بأن هذه السياسة سياسة غير مجدية، ولن تكون لها نتيجة، وكل ما فعلته أن صار السودان أكثر صموداً في وجهها، وتحت هذه السياسة أُنتج البترول، وتم التقارب مع بعض دول الجوار، وحلت مشاكل كثيرة، لذلك غير البيت الأبيض هذه السياسة في نهاية فترة كلينتون إلى سياسة فيها انخراط، وعندما يكون هناك تحول ظاهر في السياسة الأمريكية؛ يسعون إلى اختبار ردود الأفعال عليه، بخروجه من جهة غير رسمية، وكان هناك نفر من السودانيين الجنوبيين والشماليين موجودين في تلك الاجتماعات بالمركز، وورقة المركز كانت ثمرة صمود سوداني في وجه الحصار والعزل، ولم تكن العكس، وكان الجميع يعتبرون أن مفاوضات الإيقاد قد ماتت، وحتى ورقة المقترح ألمحت إلى ذلك، وعندما أتت إدارة بوش وجدته جاهزاً فتبنته من غير إعلان ذلك، وسعت عند الإيقاد لتعيد مساعيها بجد أكثر، فالورقة إذن أحدثت دعماً دولياً لجهود الإيقاد، دعم معلن بهدف معلن، هو إنهاء الحرب في السودان، الذي بات معلناً من قبل البيت الأبيض، وبين هذا الهدف وهدف إسقاط النظام في التسعينيات؛ بينهما بون شاسع، وأثرت الورقة أثراً حاسماً رغم أنه شكلي، إذ أدركت الحركة الشعبية التي كان أقوى مناصريها في المجتمع الدولي هما الولاياتالمتحدة والنرويج؛ أن الدعم سيستمر إذا وافقت على أن الهدف ليس إسقاط النظام في الخرطوم، بل إيقاف الحرب، وهذا الدور: إقناع الحركة بأن مطالبها مهما كانت يجب أن تسعى إلى تحقيقها عبر التفاوض، قام به ذلك التغيير في السياسة الأمريكية. { هناك من يرى أن المسألة كلها تغيير أسلوب، لكن النتيجة واحدة، والنظام الذي استعصى عليك بالمواجهة العسكرية، تدخل إليه وتخربه من الداخل، لذلك اعتبر مفكر كالراحل محمد أبو القاسم حاج حمد أن الاتفاق هو حصان طروادة، واعتبر أن وحدة قرنق هي وحدة لعينة أفضل منها الانفصال؛ لأنها قائمة على ضغط الوسط وتفكيك الشمال. - هذا حديث بعد قراءته والاستماع إليه كثيراً؛ حديث نابع من ضعف الثقة في الذات، هناك خيالات في أذهان الكثيرين، فهناك من يظن أن أمريكا نصف إله، والعياذ بالله، وهناك من يظن أنها تفعل ما تشاء، وهذا يؤديء إلى أن يشك الإنسان حتى في ما يريده هو إن أتت به أمريكا، ولو أخذنا تسريبات موقع (ويكيليكس) التي ظهرت مؤخراً، نجد فيها وثيقة غاية في الخطورة عن أوكامبو وأحد الدبلوماسيين الأمريكيين، يطلب فيها الأول من الأخير أن يسعى إلى تصوير الرئيس البشير كمختلس لأموال السودانيين، أن يصوره كلص لا كبطل، وهذه الوثيقة تعني سقوط قضية أوكامبو، إن لم نقل سقوط قضية المحكمة الجنائية برمتها، والموقع قدم خدمة للناس عندما كشف هذه الوثائق، وإعلامنا بسبب ضعف الثقة في النفس رأى أن هذه مسألة مدبرة، وصب نقمته على موقع (ويكيليكس) وليس على أوكامبو الذي يتعامل بصورة غير أخلاقية، والوثيقة أثبتت أنه يتعامل كسياسي، وكان يفترض أن يشكروا (ويكيليكس) على هذه الخدمة التي قدمها لنا، فليس هناك حصان طروادة، وليس هناك جهد في الاتفاقية لم يقم به الطرفان، خلا بروتوكول أبيي، ومع أن الورقة التي بني عليها البروتوكول قدمها السيناتور دانفورث عندما كان مبعوثاً، لم يُقبل إلا لأنه قدمت قبله أوراق عدّة من جانب الأمريكيين، رفضت من جانبنا أو من جانب الحركة، ولم يُقبل مقترح دانفورث إلا لأنه عاد إلى شيء كنا نتحدث عنه أثناء التفاوض حول موضوع أبيي، وهو إلحاق عموديات دينكا نقوك التسع في 1905م بمديرية كردفان، والسيناتور دانفورث لم يكن يعرف هذا، وعرف هذا في المفاوضات، وإذا كان معيار 1905م الذي نتحدث عنه غير موجود لما قبلنا ببروتوكول أبيي. { هناك من يؤكد أنه لولا وجود الولاياتالمتحدة كقوة ضاغطة لما تم تحقيق السلام. - صحيح، لولا وجودها لما جلست الحركة مع الحكومة، والسياسة الأمريكية فيها أشياء داخلية كثيرة، فتحقيق انتصارات ولو كانت شكلية في ما يتعلق بالسياسات الخارجية، يصبح حاجة ماسة عندهم، والآن لا تملك الولاياتالمتحدة - بفعل ما يتعرض له أوباما والحزب الديمقراطي وتجربة العراق وأفغانستان – إلا التعاطي مع قضية السودان بطريقة أكثر إنصافاً وعقلانية مما كانت عليه في التسعينيات. { البعض يعتقد أن دور واشنطن في السلام في السودان ملتبس، من جهة هي وسيط يفترض أن يكون محايداً، ومن جهة تقول سوزان رايس لرئيس مفوضية الاستفتاء يجب أن تمضي في الاستفتاء دون اهتمام بالقانون، فمن باب نجد واشنطن وسيطاً، ومن جانب نجدها ضاغطة لمصلحة الجنوب. - نحن لم نأمل - في أية مرحلة من مراحل هذه الاتفاقية - أن يكون الوسطاء محايدين أبداً، فالولاياتالمتحدة ليست وسيطاً محايداً، ولا النرويج، ولا بقية الدول الأوروبية، ولنكن صريحين أكثر، رغم أن مستوى حياد دول الإيقاد كان أكبر من الغرب، إلا أن بعضها لم يكن محايداً، ونحن نتفاوض مع كل هؤلاء ولا نتفاوض فقط مع الحركة، وأقول إننا لا ندين لهم بالفضل في أي شيء سوى قولهم للحركة «اذهبي إلى طاولة المفاوضات، وأن الموضوع المطروح الآن هو وقف الحرب ومعالجة المظالم الموجودة، ونحن ندعمكم في هذا ولا ندعمكم في تغيير النظام في الخرطوم»، وهذه خدمة؛ أنهم أقنعوا الطرف الآخر الذي كان يمكن أن يتعنت إذا ظن أنه سيحظى بالتدليل المستمر، وهناك أطراف شمالية الآن تطمع في أن تخدم أجندتها السياسية بالتعلق بالقوى الأجنبية الغربية، لدرجة أن هناك قوى سياسية شمالية لا ترى بأساً في أن تقدم المساعدة المباشرة لأوكامبو، أو المساعدة غير المباشرة، أو التصفيق على الأقل، رغم أن أي سياسي يريد أن تشتم منه رائحة الوطنية يجب أن يفر منه فراره من الجذام، وما حققه الوسطاء في الجنوب فشلوا – وعن قصد – في تحقيقه في دارفور حتى الآن، أما محتوى الاتفاقية فهو خلاصة التنازلات المتبادلة، واللقاء في نصف الطريق، وحدث هذا في كل البروتوكولات بجهد سوداني، ونيفاشا التي تتهم بأنها صنعت في مطابخ بعيدة، لم يكن هناك وجود للمراقبين فيها، ففي كل المفاوضات التي سبقت نيفاشا؛ مشاكوس، وناكورو، وغيرهما، كان هناك مراقبون يجلسون مع مبعوث إيقاد وسفرائها، ويتبادلون الرأي مع الطرفين، أما في نيفاشا بعد أن جاء الأخ النائب الأول حينها؛ على عثمان، وقرنق رئيس الحركة؛ لم يكن هناك وجود للمراقبين حتى في المنتجع الذي تمت فيه المفاوضات. هل هناك أثر لأجندة أخرى في الاتفاقية إذن؟ وليس هناك شيء يمكن أن يحدث في هذا العالم الآن في بيئة معزولة من كل التأثيرات، وحتى في السياسة الداخلية تنظر إلى مصالح جيرانك، وتأثيرهم عليك، ومصالح البعيد والقريب، والوضع الجيوسياسي، وأصدقائك وأعدائك وطموحاتك، وكنا ننظر إلى أننا نفاوض الحركة ومن ورائها الأمريكيون وغيرهم. { ذكرت أنكم جئتم إلى نصف الطريق بينكم والحركة، رغم الخلافات الضخمة بينكما، في المقابل لم تأتوا إلى نصف الطريق بينكم وبين القوى السياسية الشمالية الأخرى، فوقعتم اتفاقاً ثنائياً مع الحركة، فرفضته بعض القوى الأخرى، لماذا تتأخرون عن قوى تشارككم الدين والجغرافيا وكثيراً من المشتركات وتتقدمون إلى المختلف تماماً؟ - أولاً أنت تتفاوض مع الجهة المنتقضة للشرعية، ثانياً الإيقاد كانت راعية المفاوضات وهي من تدعو الأطراف إلى المشاركة في هذه المفاوضات وليست حكومة السودان، ثالثاً الحركة الشعبية كانت أثناء التفاوض في تحالف عضوي مع هذه الأحزاب، وكان جون قرنق هو وزير الدفاع في هذه الحكومة الموجودة في المنفى، وكنا نقول إذا أرادت الحركة أن تدعو حلفاءها لكي يجلسوا معها على الطاولة ضمن وفدها، أو إذا طالبت أن يأتوا ليجلسوا كمراقبين شريطة أن ندعو نحن قوى أخرى تكون مراقبة؛ فلا مانع لدينا، وإيقاد كانت تقول نحن نرعى مفاوضات من أجل وقف الحرب بين طرفي هذه الحرب، ولاحظ أن بعض قوى التجمع كانت في حلف عسكري مع الحركة، وكانت طرفاً في الحرب، وكان يمكن للحركة بهذا المنطق الذي تتحدث به الآن عن منطقتيْ جنوب كردفان والنيل الأزرق أن تشركها، لكنها كانت أشد تأبياً، فنحن ليست لنا مصلحة في عزل قوى شمالية رغم حيائها الشديد في الحديث عن الوحدة والاستقلالية، وهما الركيزتان اللتان فاوض الوفد الحكومي على أساسهما، لكن الحركة كانت تتخوف من أن يضعف الشماليون صفها، وكان يشاركها هذا التخوف المجتمع الدولي، وعقدت ندوة قبيل التوقيع في أكسفورد، وجلس كل أعضاء التجمع، كلهم، وأثاروا هذه النقطة، فقلت إذا كان ما يشاع أن المؤتمر الوطني يرفض دخول هؤلاء في المفاوضات؛ فإنني أتحدى الأطراف الأخرى أن يقول من يشاء منها إنه يؤيد دخول التجمع والقوى السياسية الأخرى، ولم يقل أحدهم شيئاً، وإذا كان حلف هؤلاء مع الحركة حلفاً صادقاً فهي تفاوض باسمهم، وهم ممثلون، وإذا كانت تريد أن تمثلهم فلم يكن لدينا مانع، وحتى شماليو الحركة لم يكونوا طرفاً في التفاوض، إلا في نهايته، كمستشارين، وكانت هناك جولة حاسمة أخرى دخل فيها د.منصور خالد، كما دخل أيضاً عبد العزيز الحلو ومالك عقار، وكان يمكن للحركة أن تأتي بهم، وأهم ما في الاتفاقية هو حق تقرير المصير، وليست هناك قوة من هذه القوى لم تؤيد هذا الاتفاق عندما صدر تأييداً مكتوباً، ولا يستطيعون أن يقولوا إن هذه القضية لم تكن بموافقتهم، وبعد توقيع مشاكوس خرجت كل هذه الأحزاب بتأييد رسمي مكتوب، والسبب الحقيقي لعدم وجود هذه القوى، ودول أخرى كان يجب أن تكون موجودة، لكنها أحجمت؛ أنهم كانوا يظنون أن هذه لعبة لن تنتهي إلى اتفاق، وكان هذا يعجب بعض الجهات الخارجية؛ أن تظل الحرب دائرة بلا أفق للحل، وأن تكون هناك مسرحية مفاوضات تلتئم وتنفض حتى يأتي وقت مناسب، وبعض أحزابنا، في تحليلي، كان يعجبها هذا الشيء، وكانوا يعتقدون أن الجانبين سيذهبان إلى كينيا ولن يبلغا شيئاً، والعشرين من يوليو 2002م كان صدمة كبرى لجميع هؤلاء، وأعتقد أن الاتفاق الذي عرض علينا وقبلناه وصار أساساً لبروتوكول مشاكوس، لم يعرض إلا على خلفية هذه الرؤية المتشككة، إن هؤلاء ليس في أذهانهم ووجدانهم رغبة في سلام، ولن يستطيعوا، لأن هذه عقلية غير قابلة لتقبُّل السلام، حتى ولو كان أفضل من إعلان المبادئ، وكان رعاة السلام يتوقعون أن الحكومة ستتعنت وترفض هذا، وعندئذ سنذهب إلى الخطة (ب)، ولكن كانت مفاجأة صاعقة لكثيرين، وحتى للحركة نفسها عندما قبلنا، وهناك في علم النفس الاجتماعي شيء يسمى ندم المشتري، أن يكون في نفسك شيء ترغب في شرائه وحصلت عليه، فتسأل نفسك: هل كان هذا يستحق كل هذا الجهد؟ وبالنسبة للحركة حدث ندم مشترٍ بعد توقيع اتفاق مشاكوس، وسعت إليها الأحزاب الشمالية الكبرى الثلاثة، ووقعت مع كل من هذه الأحزاب الثلاثة ورقة تحاول نقض بروتوكول مشاكوس، وهذا هو سبب وقوفهم في مقاعد المتفرجين.