{ الفرصة الآن متاحة للذين يودون كتابة أسمائهم في «سجلات التاريخ»، في المراحل المفصلية الوطنية حيث يفتح التاريخ أبوابه لبعض الوقت، «وقت الأذكياء» الذي نعبر فيه بقوارب أطروحاتهم نهر الأزمة، ثم تأتي «مرحلة الأبطال» الذين يقودون سُفن النجاة، ثم تأتي من بعدهم مرحلة «الرجرجة والدهماء»، رجال التعبئة والتبعية، الذين يقودون الناس إلى سوح احتفال الثورة وهم يملأون كل الأمكنة ضجيجاً وتصفيقاً. { وهذه الحكمة نأخذها من رجل شيوعي غير مسلم، نأخذها من الزعيم الشيوعي الصيني الذي أطلق عبارته الذهبية المشهورة في أربعينيات «القرن الماضي»، قال الرجل يومها «الثورات العظيمة يُخطط لها الأذكياء وينفِّذها الأبطال ويستغلّها الجبناء»، ولما تمر الثورات بمنعطفات خطيرة يفتح التاريخ أبوابه للأذكياء ليقدّموا عصارة أفكارهم للشعب ريثما يعبر نهر المِحنة، ثم يذهب الأذكياء والمفكرون إلى مساكنهم، فيطوي التاريخ صفحاته ويذهب معهم، والتاريخ والأذكياء يراقبون المشهد عن بُعد حتى يرفع المشفقون الأعلام الصفراء. { ليس من العبقرية أن ينهض رجل من مقاعد المعارضة في هذا التوقيت ليهتف بغلاء الأسعار، فهذه ندركها جميعاً، فيبدو الأمر كما لو أنه انتهازية سياسية، فعندما يصيب الكساد تجارتك السياسية تذهب لتتاجر في السلع الاستهلاكية وتتحوّل إلى صاحب (كنتين سياسي عتيق) يشتغل في تجارة التجزئة الفكرية وسط أسواق السياسة (يلا يا جماعة علينا جاي).. (جابوه بالطيارة وباعوه بالخسارة). { ليس الوقت (لعضلات) الحكومة ولا (لحلاقيم) المعارضة، فالوقت وقت العقلاء الأذكياء، فللذين يقودوننا باتجاه الانتفاضة الشعبية نأسف جداً لعدم تكرار المسرحية، انتفاضة ثم عسكر ثم حكومة انتقالية، فهذا الفيلم قد حُرق بالتقادم والتكرار. ولتنشيط ذاكرة الشعب فإن الذين ينادوننا من وراء يناير هم رجال كل الشهور، هم رجال أكتوبر، ورجال مايو، ورجال أبريل، وبعضهم رجال يونيو. فهم رجال الشهور الثورات، أو الثورات الشهور، معذرة فإن يناير يرفض ويعتذر أن يُلطِّخ سمعته بعض عطالى التاريخ الذين يختبئون عندما يتوفر الخبز والوقود ويهمهمون ويجتمعون وينفضون عندما تعترينا بعض المحن والنوازل. كنت سأحترمهم لو أتوا بجيل جديد لم يشهد مايو وأبريل وأكتوبر، ثم يأتون بكتاب جديد يخاطب الأزمة، كأن تكون لهم مشروعات بديلة في الاقتصاد والمال والأمل والأشواق، لا جديد، إنه جيل حنتوب يتربّص بنا من جديد، جيل ستينيات القرن المنصرم الذي يرفض أن يتقاعد، لا تصدقوهم (ليس في ماضيهم كيلة فيتريتة واحدة)، ليس في ماضيهم جسر ولا سد ولا نفط ولا ذهب ولا فضة. { غير أني أعترف لهم بشيء واحد، هو أن لهم قناعة لا تتزحزح قيد أنملة بأنهم هدية السماء لشعب السودان، وإنما خُلقوا وبُعثوا أصلاً ليحكموا، وهم طوال حياتهم في واحدة من حالتين، إما حكاماً يسعون للحفاظ على حكمهم بكل الوسائل، أو أنهم فقدوا هذا الحكم فهم يسعون للعودة إليه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة. { هنالك انخفاض في وزن الخبز نعم، هنالك زيادة في أسعار النفط والسكر، نعم، هنالك ازدياد في أصوات المعارضة بالتزامن، نعم، فهؤلاء لا يصرخون إلى إعادة الخبز لأوزانه، وإنما يصطرخون لأجل الجلوس على أزماتنا ليستعيدوا أوزانهم هم وأسعارهم. { نمر بمرحلة تاريخية سيصطاد، لا محالة، في مائها العكر بعض الذين سئم من تكرارهم التاريخ، نحتاج لبعض التعقُّل والتوكُّل والهدوء.