ما تمنى أحد وقد عرفه إلا أن يمد الله بعمره زمناً أطول ليبقى حياً بيننا نراه ويرانا يحدثنا فنصغي، ونتحدث إليه فيقلب لنا الأمور على أكثر من عمق، بعداً ودلالة. هذا كان حالنا جميعاً، نحن الذين تتلمذنا على عدد من أدبائنا ومفكرينا الكبار، وهو أحدهم؛ قامة طويلة، مؤسسة متنقلة، وجهاً بشراً، وثغراً باسماً، فاكهة المجالس والصالونات الأدبية والثقافية لدى العرب والعجم. الطيب صالح، مجرة هوت على غفلة منا، فغمرتنا بوجع هو مزيج من الحزن والارتباك. وبدا لي أن قائمة الغيابات في السنوات الأخيرة الماضية كانت سودانية بشبه امتياز، هناك كثر ممن نحترم ونقدر، غيبهم الموت ويغيبهم، ونألم لغيابهم، لكن القائمة السودانية كانت أطول بتقديري، ومختلفة لجهة الكثافة النوعية، فمن بين الأسماء اللامعة العصية على النسيان الشاعر صلاح أحمد إبراهيم، العلامة عبدالله الطيب، المفكر أبو القاسم حاج حمد، الروائي محمود مدني، المسرحي يوسف خليل، الإعلامي حسن ساتي، والشاعر النور عثمان أبكر، كوكبة طوت بغيابها في العشر سنوات الأخيرة، صفحة نيرة من الإسهام الأدبي والفكري والثقافي العربي للسودان تجاه الأمة، والصفحات لا تحد، والأسماء في السودان لا تعد، تتابع تترى، شأن هذه الأمة الولادة في كل عصر ودهر. خمسة أمور لمسها المرء مبكراً في راحلنا الكبير، تتجدد في نفسي كلما لمحت له اسماً، أو حضرت له مجلساً، أو قرأت له مقالة، أو وقعت له على كتاب جديد: إن أردت الأدب الجاهلي في جانبه الشعري فأنصت إلى ذاكرة نضرة نشطة لم يعرف النسيان لها مدخلاً.. هي ذاكرة الطيب صالح. إن أردت المتنبي في تقلباته وتنقلاته وأسرار مراميه وصنعته، فاذهب إلى الطيب صالح. إن أردت المعري في لزومياته ومواقفه وتأملاته الفكرية، عليك بالطيب صالح. إن أردت الرواية في سردها ولغتها الرشيقة وتشويقها وبنائها القديم الحديث، فاذهب إلى مهاجر الشمال الطيب. إن أردت أن تجلو عنك هماً وتفرج حزناً، وتعيد إلى نفسك توازنها وبناء ما بدا لك أنه عدم لا يستحق الاكتراث، كن أحد جلاس الطيب صالح. التقيته إحدى المرات في الجنادرية، من ضواحي مدينة الرياض، كان يردد بيتاً من الشعر، وترديد الشعر بصوت مهموس كان عادة شبه دائمة لديه وغيره من الأدباء المهجوسين بالثقافة، لم أتبين البيت بوضوح، فسألته، قال ستقرأه. بعد أيام كتب قصة ذلك البيت في مقالة. الطريف في الأمر أن ذلك البيت كان من ضمن أبيات قالها الشاعر المتنبي وهو لما يبلغ بعد التاسعة عشرة من عمره، كانت قصائده الأولى التي غالباً تعقب (القزقزة الشعرية) كما تقول العرب. في تلك المقالة المنشورة، بدا أن المتنبي أخذ في جيش لمعركة وهو في تلك السن المبكرة، ليعيش تفاصيل القتال، ويراقب سير العمليات الميدانية عن كثب، عياناً بياناً، وألا يكتفي بسماعها عن رواة. بعد المعركة سئل المتنبي عما رآه وشعر به، وكيف كانت أحاسيسه، وهل له تصوير ما حدث من مرقبه المشرف على ساحة الوغى؟ فردد أبياتاً كانت غاية في الروعة، لا أذكرها جيداً، فذاكرتي ليست ذاكرة الطيب صالح رحمه الله، لكني أذكر بيتاً منها، كانت الصورة فيه بليغة ومؤثرة، خصوصاً من فتى لما يبلغ التاسعة عشرة بعد، وقيل الثامنة عشرة. البيت: (كأن الهام في الوغى عيون وقد طبعت سيوفك من رقاد). رحم الله الطيب صالح في العالمين إنه عصي على النسيان. محمد الحربي