{ لم تبتعد صحيفة واشنطون بوست الأمريكية عن الحقيقة عندما وصفت أحداث الثورتين التونسية والمصرية بأنها تمثل بعثاً جديداً للعرب. { والواقع يؤكد أن شعوب المنطقة تعاملت مع المعطيات الجديدة وفقاً لمقولة: (إذا هبت رياحك فاغتنمها، فإن لكل خافقةٍ سكون). { لم تهب رياح الثورة الحالية في تونس أولاً كما يظن كثيرون، بل تحركت قبلاً في لبنان، وأدت إلى إقصاء تيار المستقبل وقوى الرابع عشر من آذار عن الحكم لأول مرة منذ العام 2005! { صحيح أن التغيير في لبنان لم يحدث بثورةٍ شعبية، لكنه مكّن حزب الله وحلفاءه من إزاحة سعد الحريري من رئاسة وزراء لبنان بانقلابٍ ناعم وأتوا بنجيب ميقاتي بديلاً له. { حاول أنصار الزعيم الشاب تصوير الأمر وكأنه انقلاب شيعي يستهدف إقصاء السنة عن الحكم في لبنان، لكن بضاعتهم لم تجد رواجاً يذكر، لأن التغيير تم بطريقةٍ شرعية وديمقراطية. { استشاط الحريري غضباً وحاول تحريك قواعده إلى الشارع ثم استكان إلى الأمر الواقع وقبل بالتحول إلى دكة الاحتياط معلناً قيادته للمعارضة! { بعدها تحولت رياح الثورة غرباً، وداعبت صواري الغضب الساطع في تونس الخضراء واقتلعت - وسط دهشة العالم كله- نظاماً بوليسياً متجبراً غرس أنيابه في عنق شعبه، ومد جذوره السوداء في باطن الأرض الخضراء، وحكمها بالحديد والنار لمدة ثلاثة وعشرين عاماً، شهدت أسوأ أنواع القمع للمعارضين، وجسّدت كل أشكال تجبر وعنجهية وفساد النخب الحاكمة في العالم العربي. { حاول الحاكم إيقاف مد الثورة بالعنف بدءاً، وعندما أخفق سعى إلى تهدئة روع شعبه الغاضب بخطابٍ مرتجف المقاطع، واهن العبارات ردد فيه مقولة (أنا فهمتكم)، باذلاً الوعود البراقة لشباب تونس الأبي، لكن فهمه المتأخر لم ينجه من سوء الخاتمة، فاضطر إلى النجاة بجلده ليلاً وفر بما عليه. { ومن الخضراء تحولت رياح الثورة شرقاً، وتحولت عبارة (الشعب يريد إسقاط النظام) إلى المحروسة. { حينها راهن كثيرون على أن مبارك ليس زين (الهاربين)، وأن ما جرى في تونس لن يتكرر في مصر، وزعموا أن زواج السلطة بالثروة في الأخيرة أمتن من أن تهتك عرضه دعوات تنطلق من أحد مواقع التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، لكن إرادة الشعب غلبت، ونفذ أمر الله في من كان يظن أن شعبه لن يقول لا! { تكرر الشريط و(فهمهم) مبارك متأخراً، قبل أن يتنحى مجبراً! { وها هي عبارة (الشعب يريد إسقاط النظام) تسري من النهر إلى البحر، وتدوي في شوارع اليمن، والجزائر، والبحرين، والعراق، وليبيا، ولا يستبعد أن تتسع لتشمل دولاً أخرى كانت تظن نفسها بمنجاةٍ من مثل هذه المتغيرات الساخنة، إما استناداً إلى سطوة السلطة فيها، أو رهاناً على استكانة شعوبها. { وذاك رهان خاسر، لأن الرياح العنيفة التي تهفهف فوق الصواري حالياً لا تعبأ بالحدود، ولا تعترف بالخرائط، (ولا في إيدها جواز سفر)! { وهي رياح سعدٍ أججت أتون مطالب بسيطة ومشروعة، هدف أصحابها إلى توفير سبل العيش الكريم لأنفسهم وأسرهم بإسقاط أنظمة نخر الفساد جذورها، وأكل سيقانها وعشعش في أوراقها حتى اصفرت وذوت. { رياحٌ صرصر، استهدفت إعادة الأشياء إلى طبيعتها بعد طول اختلال، بسطاً للعدل، وكفاً للظلم، وإشاعةً للحرية، وصوناً لحقوق البشر في اختيار من يحكمهم، ومنعاً للاستبداد، وحظراً لاستعباد العباد، وحرباً على قطط سمان اكتنزت في بطونها كل الثروة، ولم تترك لشعوبها إلا خيار الثورة. { رياحٌ استهدفت فصم عُرى نكاحٍ باطل بين السلطة والثروة، أهدر مقدرات الشعوب، وجعلها حكراً على أقلية لا تعبأ بمعاناة الأغلبية. { رياحٌ وقودها شباب واع ومثقف، لا يعرف الخضوع، ولا يرضى الذل، ولا يجدي في صده تمدد سيطرة أنظمة القهر على وسائل الإعلام. { رياحٌ دفنت أسماءً مجلجلة كانت ملء السمع والبصر، ودفعت أسماءً مغمورة لم يسمع بها أحد إلى الواجهة! { شباب في عمر الورود، قادوا ثورة استهان بها كثيرون، ثم خلد التاريخ فصولها، وثمّن فعلها الجميل، وخط سطورها بحروفٍ من ذهب. { لا يقلل من قدر ثورة الشباب الحر في مصر وتونس ألا يكون لها قيادة معروفة، بل إن جوهر عظمتها يكمن في أنها لم تسند إلى أحزاب هشة، ارتدت لبوس المعارضة ردحاً من الزمن وهي إلى السلطة أقرب. { ليسوا (ناصريين)، وليست لهم علاقة بالوفد، ولا الغد، ولا الإخوان! { خرجوا من رحم شارع يذخر بالمظالم، لذا كان إحساسهم بعدالة قضيتهم عالياً ومجلجلاً. { وتكمن عظمة ما فعلته أسماء محفوظ ووائل غنيم ورفاقهما في أنهم لم يرهنوا حركتهم إلى الفعل الباطل، وأحاقوا المكر السيء بأهله عندما راهنوا على مطالب البسطاء والمحرومين، وعزفوا على وتر محاربة الخوف والفقر، ومكافحة الجهل والفساد والبطالة والمحسوبية، وطهروا الشارع العربي من الشعور بالذل والمهانة والتبعية، وكسروا حاجز الخوف السميك إلى الأبد. { قصد هؤلاء أو لم يقصدوا فقد غيروا واقع منطقتهم كلها إلى الأفضل، وتعدى فعلهم الحاضر إلى الآتي. { في اليمن أعلن الرئيس علي عبد الله صالح أنه لن يورث ابنه، ولن يرشح نفسه مجدداً، وفي البحرين منحت الحكومة كل أسرة ألف دينار ووجه الملك بالتحقيق في الملابسات التي أدت إلى مصرع عدد من المتظاهرين، وعلى الدرب ذاته سارت الحكومة الكويتية وقدمت منحاً مادية للمواطنين. { وفي العراق خفض رئيس الوزراء راتبه وأعلن نيته عدم ترشيح نفسه لرئاسة الوزارة مرة أخرى، كما ألغى صفقة سلاح كان من المفروض أن تكلف خزانة بلد الرافدين 900 مليون دولار، وأمر بتحويل المبلغ لدعم بطاقة التموين المخصصة للفقراء والمعوزين. { وفي الجزائر أعلن الرئيس بوتفليقة اعتزامه إلغاء حالة الطوارئ المعلنة منذ 18 عاما ووافق على إجراء إصلاحات سياسية، وفي الإمارات تم تعديل طريقة انتخاب المجالس المحلية، وفي المغرب حولت الحكومة عشرة في المائة من مجمل ميزانية الدولة لإتاحة فرص عمل جديدة للشباب، وفي السودان بدأت السلطة حواراً مع مجموعات من الشباب دعت عبر الإنترنت إلى التظاهر، وفي سوريا تم إلغاء الحظر المفروض على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي سلطنة عمان تم رفع الحد الأدنى للأجور. { وفي ليبيا أعلنت الحكومة حزمة إجراءات مستعجلة لتحسين أوضاع السكن والمرتبات. { وبغض النظر عن مدى جدية الأنظمة المذكورة في السعي إلى تنفيذ مطالب الشعوب فإن فعلها يمثل بداية لا بأس بها لاحترام رغبات المواطنين، ومحاولةً جادة لتجنب امتداد نار بعودي (الإنترنت) تُذكى، ويُخشى أن يكون له ضرام! { ويبقى الخير على قدوم (الثائرين)!