في الوقت الذي أعلن فيه بنك السودان المركزي أن ترقية الصادرات غير البترولية يعتبر أهم ملامح المرحلة القادمة في رسم السياسات الاقتصادية الكلية؛ فقد نبّه في الوقت نفسه إلى مخاطر التضخم. فالضغوط التضخمية لم تبرح مكانها؛ فقد سجل معدل التضخم الشهري 16% في يناير 2011م، فهي من المعدلات العالية التي سجلت في تسعينيات القرن الماضي. فالتضخم أخطر مرض يصيب الاقتصاد، أو كما في حديث رئيس الجمهورية الذي نقله عنه د. صابر محمد الحسن محافظ بنك السودان في أحد اللقاءات الصحفية، حيث قال: «التضخم عبارة عن حرامي يسرق القروش من جيوب الفقراء». إذن، ماذا نحن فاعلون لاحتوائه والنزول به إلى أرقام آحادية! البنك المركزي أكد أن ارتفاع معدلات التضخم بهذا الشكل الذي وصل في يناير 2011م إلى 16% من شأنه أن يعرض الاستقرار الاقتصادي إلى خطر داهم يستوجب توجيه الدولة لكافة الجهود لاحتوائه، فمن المتعارف عليه أن معدلات التضخم عندما ترتفع بشكل متتالٍ يصبح من الصعوبة بمكان تقليلها مستقبلاً وذلك لضعف فاعلية السياسة النقدية والمالية عند دخول الاقتصاد في مرحلة التضخم الركودي. فالسياسة الانكماشية النقدية التي انتهجها البنك المركزي، اعتباراً من يوليو الماضي، ستظهر آثارها منتصف 2011م وهي ذات فترة انفصال جنوب السودان، وبالتالي لا بُد من سياسة نقدية انكماشية لتخفيض معدلات التضخم - على حد قول المركزي. كذلك لا بُد من إعادة هيكلة الموازنة العامة واستدامة عجز الموازنة في حدود متطلبات الاستقرار الاقتصادي وتخفيف أعباء المعيشة عن المواطنين بتقليل التضخم وتوفير السلع الضرورية. إلا أن سياسات جانب الطلب - وفقاً للمركزي - وحدها ليست كافية لتحجيم التضخم، فلا بُد من توجيه التمويل للقطاعات الإنتاجية «الزراعة والصناعة» وتشجيع الإنتاج المحلي عبر برنامج متكامل لإحداث طفرة في الإنتاج لتغذية الأسواق المحلية والتصدير للأسواق الخارجية، الأمر الذي يتطلب تهيئة البيئة الإنتاجية وإزالة القيود والرسوم المختلفة وتكامل جهود وزارات القطاع الاقتصادي للاستفادة من «وفورات» الإنتاج الكبير في المشاريع الحيوية والبنيات التحتية. وحسب «النشرة» الصادرة من المركزي، التي تحصلت «الأهرام اليوم» على نسخة منها، فإن بنك السودان يهتم بتشجيع الصادرات غير البترولية وهنالك حوافز - كما قال - للبنوك التجارية التي تساعد في تمويل إنتاج وتصدير الصادرات التقليدية في هذه المرحلة المهمة التي تتطلب تضافر الجهود لرفع مستويات الإنتاج المحلي وفتح الأسواق الخارجية لمنتجاتنا الوطنية وبالتالي خلق فرص العمل ومحاربة العطالة. ومادام هنالك بترول بالشمال لماذا لا نبدأ من الآن في تطويره ليعمل جنباً إلى جنب مع زيادة الإنتاج وترقية الصادرات ومن ثم الخروج من عنق الزجاجة؟ وهل حقيقةً أن بترول الشمال يكفي ويزيد؟ «النشرة» أكدت أن هنالك جهوداً مكثفة لتطوير بترول الشمال ويتوقع أن يصل إنتاج شمال السودان إلى حوالي (175) ألف برميل يومياً مع حلول العام 2012م. وإذا أخذنا في الاعتبار - وفقاً «للنشرة» - الجهود التي تبذلها وزارة المعادن لتشجيع تعدين الذهب التي تشير إلى إمكانية تصدير (74) طناً من الذهب تقدر بحوالي (2.4) بليون دولار، فالنتيجة المؤكدة هي أن السودان الشمالي بإمكانه تعويض البترول الذي يتحول إلى الجنوب تدريجياً مما يحسن موقف ميزان المدفوعات ويؤدي إلى استقرار سعر الصرف تباعاً. ومما لا شك فيه فإن ارتفاع أسعار البترول سيحسن من شروط التجارة في شمال وجنوب السودان على حد سواء على المدى القصير وهذا يعني رفع قدرة البلاد على الاستيراد وتوفير الاحتياجات الأساسية بالرغم من فقدان ثلث إنتاج البترول مع الانفصال وأن ارتفاع أسعار البترول سيعمل على تعويض حصيلة الصادرات، وعليه لا بُد من مضاعفة إنتاج البترول على المدى البعيد. فأسعار البترول - والحديث مازال للنشرة - قد ارتفعت عالمياً وتخطى سعر البرميل (100) دولار وهي المرة الأولى منذ الأزمة المالية العالمية، حيث يتوقع أن يتحسن أداء الميزان التجاري في السودان نتيجة لارتفاع عائدات الصادرات البترولية. وبالرغم من عدم وضوح الرؤية حول قسمة عائدات النفط بعد الانفصال إلا أن هنالك نسبة مقدرة ستعود إلى الشمال بسبب إمكانية استفادة السودان الجنوبي من البنية التحتية لصناعة النفط بالشمال من ناحية ترحيل ونقل البترول عبر الأنابيب تكريره في المصافي وتصديره عبر الميناء من ناحية أخرى مما يجعل التنسيق في إنتاج وتصدير البترول ضرورة حتمية لكلا الطرفين. ومن ناحية أخرى وفي حالة السماح بحرية حركة السلع باعتبار التجارة بين الشمال والجنوب ضمن تجارة الحدود حتى في ظل إصدار عملة الجنوب فهذا يعني عدم حاجة الاقتصاد في السودان الجنوبي إلى عملات حرة لاستيراد العديد من السلع الأساسية كالذرة والقمح والمواد البترولية، وفي المقابل يستفيد الشمال من فرص التجارة والاستثمار في جنوب السودان وإمكانية المساهمة في إنشاء المشروعات الزراعية والصناعية مما يعود بالفائدة على الطرفين ويسهم في إيجاد الاندماج والتكامل الاقتصادي الذي بدوره يسهم في خلق فرص العمل وزيادة الإنتاج وتحسين المعيشة. لذلك تعتمد التوقعات على نجاح اللجان المشتركة بين الطرفين في فهم ضرورات التكامل الاقتصادي وأهمية التجارة والاستثمار بين الطرفين لضمان المصلحة المشتركة. وما دام الحديث هنا عن الاستثمار فلماذا لا نستفيد من العلاقات الخارجية في جذب الاستثمار خاصةً وأن الدولة تعوِّل عليه كثيراً، حيث تم مؤخراً عرض مسودة قانون الاستثمار في ثوبه الجديد؟ فالبترول في الشمال بحاجة إلى شركات استثمارية لاكتشافه وإدخاله دائرة الإنتاج، فلماذا لا نعلن الانفتاح اقتصادياً لنطور من إنتاجنا في مجال النفط؟ وحسب توقعات بنك السودان فإن الاستثمارات الأمريكية والأوروبية مع انفتاح البلاد اقتصادياً يتوقع أن تسهم في مجال إنتاج وتصدير النفط وذلك لما تتميز به التقنية الإمريكية من القدرة على التنقيب عن النفط في البحر الأحمر، التي تحتاج إلى تقانة متطورة لا تتوفر إلا لدى عدد قليل من الدول وبالتالي فتح المجال واسعاً للتجارة والاستثمار مع الدول الآسيوية والأوروبية وأيضاً فتح الأسواق الخارجية للمنتجات الوطنية وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر. ومما لا شك فيه فإن الاقتصاد يمر بمرحلة تحتاج لتضافر الجهود الدبلوماسية من أجل وضع الترتيبات اللازمة لجذب الاستثمارات الأجنبية وخلق علاقات حسن جوار مع الدولة الوليدة في السودان الجنوبي والبحث عن فرص استغلال الموارد البشرية والمادية. وحسب كبير الباحثين بإدارة البحوث والتنمية ببنك السودان؛ د. مصطفى محمد عبد الله، فإن هنالك مؤشرات قوية تفيد بنجاح الموسم الزراعي هذا العام، وإذا أخذنا في الاعتبار كذلك ضرورة استفادة جنوب السودان من البنيات التحتية في الشمال وأهمية التنسيق الكامل لإنتاج وتصدير الذهب حسب الطرق التقليدية والشركات التي تعمل بالطرق الحديثة؛ فهنالك إمكانية لتحسن أداء القطاع الخارجي مع الانفصال ومن ثم استدامة الاستثمار الأجنبي المباشر ودفع عجلة التنمية الاقتصادية بالبلاد.