{ أرقام فلكيَّة يدفعها (أولياء الأمور) كل عام، عن يد وهم صاغرون، إلى رياض الأطفال ومدارس الأساس، والثانوي، والجامعات والكليَّات، الخاصة. { لم يعد هناك تعليم (حكومي) تثق فيه الأسر، ويستحق احترامها وتقديرها لتدفع إليه بأبنائها وبناتها.. { يحدِّثني أحد الأصدقاء، وهو موظَّف دخله متوسط، أنَّه وزوجته الموظفة أيضاً، يلهثان طوال العام ليجمعا مبلغ (16) ألف جنيه «ستة عشر ألف جنيه» مقابل تعليم «اثنيْن» فقط من الأولاد، يدرسان بإحدى مدارس التعليم الأجنبيَّة!! الزوجة مشتركة في (صندوق) أو (ختَّة)، والرجل يعمل نهاراً.. وليلاً.. يشقى طوال اليوم ليجمع رسوم المدرسة التي تخرِّج له ولداً مؤهلاً يتحدث الإنجليزيَّة في سن الرابعة..!! الزوج مريض بداء السكَّر اللعين - شفاه وحماكم الله - لكنَّه يُضطر - أحياناً - إلى توفير ثمن «الأنسولين» لصالح تعليم الأولاد!! قال لي عبارة ما زالت راسخة في ذاكرتي: (نحن نستثمر في الأولاد، فليست لدينا تجارة، ولا مصانع، ولا مزارع)!! { وما يفعله صديقنا (المهدود) بفاتورة التعليم، أقدمت عليه آلاف العائلات في «الخرطوم» وغيرها من مدن السودان الكبرى.. حيث انتشرت رياض الأطفال والمدارس (القرآنيَّة)، أو العاملة بتوكيلات (أجنبيَّة) لتدريس المناهج باللغة «الإنجليزيَّة»، وكلها تكلف الأسرة «آلاف الجنيهات».. مقابل التلميذ الواحد..!! { ويتملَّكني العجب، وتحاصرني الدهشة، وأنا أعرف عدداً كبيراً من الموظفين في مؤسَّسات الحكومة، أو شركات خاصة، ومرتَّب الواحد منهم لا يتجاوز «ألفاً وخمسمائة جنيه» شهريَّاً، بينما يدرس أبناؤه بخمسة، وعشرة، وخمسة عشر ألف جنيه، هذا غير مصاريف الترحيل، والفطور و....!! { لم يعد التحاق أبناء الطبقة (الوسطى) بالمدارس والجامعات الخاصة، ترفاً، ولا تنطُّعاً، ولا عادة اجتماعيَّة، ولكنَّها حالة (هروب جماعي) من المدارس الحكوميَّة، التي صار يُضطَّر إلى التمسُّك بها، (المعدمون) في المجتمع، وليس الفقراء، فالذي يضطر إلى الاستغناء عن دواء «الأنسولين» ويعرِّض حياته للخطر، متنازلاً عن قيمته للمدرسة، هو (فقير) أو قل (مسكين)، لأنَّه لم يستطع أن يوفِّر الدواء لنفسه، مفضلاً الاطمئنان على مستقبل فلذات كبده..!! { حال مدارس الحكومة أسوأ من أن نصفه بالسيِّئ.. ويبدو المشهد وكأنَّما تريد الحكومة (تجفيف) المدارس، والتحلُّل من مسؤوليتها في هذا القطاع الإستراتيجي الحساس، رغم توجيهات رئيس الجمهوريَّة بمجانيَّة تعليم الأساس للجميع. { والغريب أنَّ الحكومة لديها وزير اتِّحادي للتعليم، ووزير دولة، ووكيل وزارة، و(15) وزير تعليم بالولايات (الشماليَّة)!! بينما يتَّجه المجتمع إلى التعليم (الخاص)، فعلامَ هذا الكم الهائل من الوزراء، على ماذا يُستوزرون؟! { الأخطر، أنَّه بالإضافة إلى الرسوم (المتزايدة) كل عام، دون مسوغات مقبولة، غير (جشع) أصحاب تلك المدارس الخاصة الذين أسًّسوها طلباً للربح، وكنز المليارات، فإنَّ تلك المدارس لا تتوفَّر بها مناهج وموجِّهات (تربويَّة) يمكن الاعتماد عليها في (تربية) أجيالنا القادمة، أخلاقيَّاً، ووطنيَّاً. { وقد لجأت لي قبل أسابيع سيِّدة محترمة، لديها ثلاثة أحفاد يدرسون بإحدى مدارس «الخرطوم» الخاصَّة، حكت لي السيدة، وهي ترتجف من الرعب، عن تأكُّدها من انتشار ممارسات (لا أخلاقيَّة) بين الطلاب بالمدرسة، بعد أن أفشى لها حفيدها (الأصغر) بمعلومات، رفعت معدَّلات ضغطها، عن ممارسة (الشذوذ) في (مجموعات) بين الطلاب، في أركان مخفيَّة بالمدرسة!! { هرعت السيدة إلى صاحب المدرسة عند تأكُّدها من (الواقعة) و(المواقعات) عبر أكثر من مصدر، لكن، وللهول، صدمها صاحب المدرسة (المستثمر) وانتهرها، وطردها، مؤكداً أنَّ مدرسته لا توجد بها مثل هذه (السخافات)!! لم ينصت إليها، لم يجرِ تحقيقاً حول الأمر، لم يستدع الطلاب الذين حدَّدتهم له (بالاسم) ، لم يسأل المعلمين.. لم.. ولم.. !! لأنَّه يجمع المال.. ويجني الأرباح. { أوفدتُ محرِّرة من (الأهرام اليوم) بصحبة السيِّدة إلى المجلس القومي لرعاية الطفولة لاتخاذ الإجراءات المناسبة ضد المدرسة ومتابعة الملف، ولكن لا أظنُّ أن إجراءً قد تمَّ.. أو تحقيقاً قد فُتح..!! كم مدرسة أخرى يحدث فيها هذا؟ { هذه مدارس ل (البزنس) فقط، لا يحفظ الطلاب فيها نشيد العلم، بل لا يعرفون حتى ألوان العلم، مدارس ليس فيها ميادين للرياضة، ولا مساجد للصلاة، ولا ساحات (للفسحة).. والأغرب أن بعضها يملكها (متنفِّذون) في الدولة!! { لو كنتُ مكان الحاكمين بأمرنا، لأصدرت قراراً بإغلاق جميع المدارس (الخاصة) وتوزيع معلِّميها على المدارس الحكوميَّة بالأحياء، ودعمها، وتوفير حوافز للمعلمين من المحليَّات ولجان الأحياء ومجالس الآباء، فما يزال هناك بصيص أمل في إمكانيَّة تطويرها وتقويتها، وقد جاءت (أولى الشهادة الثانوية) على نطاق البلاد عام 2006م من مدرسة «مدني الثانويَّة» وهي «شيماء سيد أحمد عوض» بنسبة (96.7%)، كما جاءت (الرابعة) على مستوى السودان للعام 2010م من ذات المدرسة «مدني بنات» وهي الطالبة «وئام صلاح الدين أحمد» بنسبة (96.9%). { إذن يمكن أن تكون (أولى السودان) من مدرسة (حكوميَّة) بل في (الولايات)، وليس الخرطوم، كمدرسة «مدني الثانوية بنات». { يجب التفكير جدياً في (إلغاء) جميع المدارس (الخاصة)، وتطوير المدارس (الحكومية)، ورفدها بمعلمي (لغات) أكفاء، وإذا كان أولياء الأمور يدفعون من (5) إلى (15) ألف جنيه للتلميذ الواحد، فلماذا لا يدفعون «خمسمائة جنيه» فقط (لكل العام) لدعم المدارس الحكوميَّة وتحفيز المعلمين بها، والتخلص من ميزانيَّة التعليم المرهقة و(القاتلة) أحياناً. { التعليم الخاص.. سياسة (ماسونيَّة).. ولن أزيد..!!