احتفلت الجالية الليبية بفرنسا بقرار المجتمع الدولي الموافقة على التدخل العسكري في ليبيا لوقف المعاناة التي يتعرض لها الشعب الليبي. فرنسا الرئيس الدوري لمجموعة الدول الثماني الكبار سعت لأن يكون اجتماع القمة الذي انعقد يوم 19/مارس الجاري بالعاصمة باريس مكللاً بالنجاح لأن ذلك سيمهد الطريق أمام الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستجري بعد حوالي عام من الآن. كما أن الأحداث في ليبيا تعتبر فرصة مواتية للرئيس ساركوزي وحكومته لتغيير الصورة الشائهة التي ظهرت بها الحكومة الفرنسية أمام العالم في ما يتصل بعلاقاتها بالأحداث الأخيرة في شمال أفريقيا، أي في كل من تونس ومصر. الأممالمتحدة أصدرت قراراها رقم 1973 بفرض حظر جوي على ليبيا وجاء بموافقة عشر دول، على رأسها فرنسا وبريطانيا وأمريكا، في حين احتفظت خمس دول بأصواتها، من بينها روسيا والصين وألمانيا. التصريحات التي أدلى بها كل من وزير الخارجية الليبي موسى كوسا، والمتحدث باسم الحكومة الليبية عن رفضهم للقرار الأممي بفرض حظر جوي على ليبيا وإعلانهم الشفاهي بوقف إطلاق النار لم يجديا نفعاً. وكذلك لم تجد التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الروسي بوتين الذي وصف الهجوم على ليبيا بالحملة الصليبية ولا الموقف الصيني المعارض للهجوم. مرتدياً ثياب القوة والتصميم ومدفوعاً برغبة أكيدة في إظهار بلاده كقوة عسكرية عظمى، صرح الرئيس الفرنسي ساركوزي في مؤتمر صحفي عقد بعد انتهاء اجتماع الدول الثماني الكبار والذي شارك فيه أيضاً، كل من الأمين العام للأمم المتحدة والسيد عمرو موسى؛ الأمين العام لجامعة الدول العربية، بأن الطائرات الفرنسية تنفذ الآن – آنذاك- هجمات جوية على مواقع ليبية في وحول بنغازي. وتشارك في العمليات العسكرية حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول» التي تحتاج لقطع المسافة من الموانئ الفرنسية إلى المياه الإقليمية الليبية إلى حوالي (72) ساعة فقط. وتحمل «شار ديغول» طائرات من نوع «رافال» التي تستطيع ضرب أهداف من مسافات بعيدة وبدقة متناهية. كما شاركت في الطلعات الجوية الأولي، بجانب الطائرات الفرنسية، طائرات بريطانية. ورغم أن أمريكا كانت بدءاً ضد التدخل العسكري في ليبيا إلا أن الرئيس أوباما أعلن في مؤتمر صحفي عقده خلال زيارته للبرازيل أن قوات بلاده ستشارك في العملية إلا قواتها المرابطة في البحر المتوسط قامت في اليوم الأول لبدء العمليات العسكرية ضد ليبيا بإرسال أكثر من مائة صاروخ على مواقع للحكومة الليبية. وذكر أوباما خلال حديثه، أنه كانت هناك رغبة قوية من قبل المجتمع الدولي في التدخل في ليبيا حماية للمدنيين من قوات القذافي. وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس صرح بأنه لا بد من ضرب كل الدفاعات الليبية، بما في ذلك مضادات الطائرات وأجهزة الرادار، للتمكن من تطبيق قرار الأممالمتحدة بفرض حظر جوي على ليبيا دون خوف من أن تكون هدفاً للأسلحة المضادة. جمهورية ألمانيا الاتحادية أعلنت تحفظها على بعض بنود قرار مجلس الأمن، وبالتالي رفضت المشاركة في إرسال قوات ألمانية لتنفيذ القرار. لكن المستشارة الألمانية أكدت في ذات الوقت أن بلادها تؤيد تنفيذ كل بنود القرار الأخرى التي لا تتطلب التدخل العسكري، مثل فرض حظر شامل لتصدير النفط الليبي وفرض عقوبات على أرصدة القذافي وأعضاء الحكومة الليبية. متحدث باسم الحكومة الفرنسية «فرانسويس باروين» أكد نجاح الطلعات الجوية التي نفذتها الطائرات على أهداف ليبية في وقف مذبحة جديدة في بنغازي، الشيء الذي كان متوقعاً في الهجوم على المدينة من قبل قوات القذافي. الشكوك حول قرار الهجوم على ليبيا بدأت في التزايد. رئيس الوزراء الروسي بوتين شبه القرار الأممي بدعوة في العصور الوسطي لإعلان حرب. كذلك عبرت الصين عن أسفها للهجمات العسكرية. غير أن الانقسام طال أيضاً أوروبا الغربية، خاصة في ألمانيا وبولندا، كما انضمت إليهما المجر، مما أصاب الموقف السياسي الأمني للاتحاد الأوروبي حيال الأزمة في ليبيا بالشلل. الاتفاق الوحيد كان حول تقديم المساعدات الإنسانية وتوسيع العقوبات المالية المفروضة على الحكومة الليبية وفقاً لطلب الأممالمتحدة. الشلل أصاب أيضاً حلف النيتو، حيث صوتت تركيا ضد تفويض الحلف بالتكفل بعملية مراقبة الحظر الجوي في ليبيا. لذا نجد أن التحالف القائم هو تحالف الراغبين الذين يرغبون في محاربة الحكومة الليبية. ومن غير المعروف بعد من سيتولى قيادة هذا التحالف، في الوقت الراهن تولى قيادة القوات جنرال بالجيش الأمريكي، رغم إعلان وزير الدافاع الأمريكي روبرت جيتس عن أن بلاده ستترك القيادة قريباً لدولة أخرى. ويتوقع أن يقع العبء على كل من فرنسا وبريطانيا. ولا يتوقع الحصول على تأييد من قبل الدول العربية. خاصة وأن الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى انتقد كيفية تنفيذ الحظر الجوي الذي سبق أن أيده. قرار الأممالمتحدة رقم 1973 لم يصغ بشكل صحيح وبتكاليف واضحة. فبعد مداولات عقيمة تم الاتفاق على قرار بمهام واسعة بتعبير «اتخاذ كل التدابير اللازمة» لحماية المدنين في ليبيا وتنفيذ منطقة حظر جوي. صياغة القرار بهذا الشكل سمحت بتنفيذ ضربات وهجمات على القوات الليبية، ولكنها لم تتضمن تغيير الحكومة هناك، كما أن القرار لم يتضمن إرسال قوات مشاة «أرضية» إلى ليبيا. أما القرار السابق حول ليبيا بالرقم 1970 فلم ينص حتى على مد الثوار بالسلاح، هذا يعني أن الغرب أصبح وفقاً لهذه القرارات مكبل اليدين. الرئيس الأمريكي أوباما أكد في مؤتمر صحفي على أهمية الدور الأمريكي لفرض حظر جوي على ليبيا، ولكنه أشار أيضاً إلى أن ذلك لا يعني أن تتحرك الولاياتالمتحدة بمفردها، بل يجب أن يكون في إطار إجماع دولي. هذا الحديث يدلل مجدداً على أن الولاياتالمتحدة لم تعد ترغب في لعب دور شرطي العالم أو الدخول في أي حرب جديدة وذلك، من بين أسباب أخرى، اقتصادية وسياسية لا تستطيع أمريكا تحملها لوحدها. فالولاياتالمتحدة تريد الانسحاب من المناطق المشتعلة في العالم على الأقل من المنظور العسكري، حيث بدأت بسحب قواتها من العراق، ويتوقع أن تبدأ بسحب قواتها من أفغانستان خلال العام الجاري، وبدلاً عن ذلك ترغب الإدارة الأمريكية في التركيز بشكل أكبر على القضايا الداخلية. كذلك رفضت الولاياتالمتحدة على لسان وزير دفاعها جيتس، الاستمرار في قيادة القوات المشاركة في الهجوم على ليبيا وعن رغبتها في تسليم الأمر إلى دولة أخرى. التجارب السابقة في البوسنة والهرسك «يوغسلافيا» سابقاً وفي كوسوفو أظهرت أن الهجوم الجوي قد لا يكفي لإضعاف النظام ودفعه للاستسلام. مما قد يعني بدوره الحاجة إلى إرسال قوات برية «مشاة» إلى مناطق العمليات في لبيبيا وبالتالي احتمال التعرض لخسائر فادحة في الأرواح والعتاد لأن مؤيدي القذافي لن يستسلموا بهذه السهولة، الشيء الذي قد يتسبب في ارتفاع الإصابات والخسائر المادية وتقصير عمر العمليات العسكرية هناك بل والانسحاب من ليبيا. من جانب آخر يتوقع أن تتسبب الأزمة الليبية والتباين الكبير في المواقف في إحداث شرخ كبير في جسد الأمة العربية والإسلامية المثقل أصلاً الجراح والآلام. إذ إن مواقف الدول العربية شهدت تبايناً كبيرًا ما بين مؤيد للهجوم الجوي على ليبيا وبين معارض له. كما دعت بعض الدول لتدخل جامعة الدول العربية كوسيط بين الفرقاء الليبيين لحقن دماء الشعب هناك، ولكن للأسف لم ير هذا المقترح النور وكان السبق لأفواه البنادق وليس البشر. ولم تجد نفعاً تصريحات الأمين العام لجامعة الدول العربية وتصريحات بعض الرؤساء والوزراء العرب حول فهمهم وتفسيرهم المغاير للغرب لمصطلح فرض حظر جوي. حيث تعالت بعض الأصوات التي تقول بأن فرض الحظر لا يعني بالضرورة ضرب القدرات العسكرية الليبية، في حين أن الأممالمتحدة والغرب يعلمون تماماً أن القرار الأمم 1973 تحدث عن فرض حظر جوي وتطبيق ذلك يتطلب ضرب الدفاعات العسكرية الليبية. ولا شك أن هذه الضربات ستوقع ضحايا من الطرفين؛ الثوار والقوات الموالية للقذافي، وأن صور الضحايا والدمار ستعمق بكل تأكيد الطود الذي فصل بين المؤيدين والمعارضين للحرب على ليبيا من الدول العربية والإسلامية. غير أن القرار الأممي بفرض حظر جوي على ليبيا حال دون استعادة القذافي للمناطق الشرقية ووقوع مذبحة هناك. ولكن وبالرغم من ذلك يعتقد البعض أن القرار الأممي جاء متأخراً أسبوعين عن موعده، حيث كان يمكن حينئذ إسقاط نظام القذافي. أما الآن فهناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لتطورات الأحداث في ليبيا، هي: السيناريو الأول: انهيار حكومة القذافي نتجية الضغط العسكري رغم أن لا أحد من السياسيين الغربيين يصرح بذلك إلا أن الجميع يتمنون سقوط نظام القذافي. ويتوقع أن يؤدي القصف الجوي إلى كسر عزيمة الرجال الملتفين حول القذافي وخلق انشقاق بينهم. كما أن الحظر الجوي سيشجع الثوار على تنظيم صفوفهم والتوجه إلى طرابلس لإسقاط الحكومة. هذا السيناريو سيكون الأفضل لدى الغربيين. غير أن الثوار ليسوا منظمين بالشكل الجيد الذي يمكنهم الآن من التوجه صوب طرابلس وإسقاط القذافي. السيناريو الثاني: انقسام ليبيا إلى شرق وغرب واندلاع حرب أهلية التجارب السابقة، خاصة في كوسوفو، أثبتت صعوبة إمكانية إحداث تغيير على الواقع من الجو فقط. القذافي ما زالت له قوات تابعة له وكل يوم يمر يحسب له وكل فقيد من المدنيين جراء الهجمات الجوية يحسب على الحلفاء ويتسبب في زيادة الأصوات المنتقدة لتدخل التحالف. وليس من المحتمل أن يتوافق الغرب على إرسال قوات أرضية إلى ليبيا. عليه يتوقع أن تنقسم ليبيا إلى جزأين، جزء يسيطر عليه القذافي في الغرب، وجزء آخر يسيطر عليه الثوار في الشرق، ما يعني وجوداً شبه دائم للقوات الغربية هناك، وبالتالي ستصبح ليبيا منطقة نزاعات مستمرة. السيناريو الثالث: التوصل إلى حل وسط بين القذافي والثوار من الممكن أن يكون هدف القذافي وجماعته الدخول في مفاوضات مع الثوار، خاصة بعد تعزيز قبيلته من مواقعها من خلال فرض سيطرتها على بعض المناطق. نجاح جماعة القذافي في الحفاظ على هذه المناطق لمدة أطول سيكون سبباً في تعالي الأصوات المنادية بالحوار الذي يتوقع أن تلعب فيه تركيا دور الوسيط. في البدء كان القذافي يفكر في تسليم السلطة لابنه سيف الإسلام، غير أن هذا الخيار أصبح اليوم غير وارد، كما أن الثوار والغرب لن يوافقوا على الدخول في حوار إلا في حالة سفر أسرة القذافي إلى المنفى. إذاً الخيار الأرجح هو إسقاط القذافي، والخيار الثاني هو الحرب الأهلية، ورغم أنه ليس بمقدور أحد الجزم بما ستنتهي إليه الأمور المتسارعة هناك، إلا أنه من المؤكد أن الأمر سيطول لفترة أطول بكثير مما تم التصريح به من قبل القوى الغربية المهاجمة من جهة، ولفترة أطول مما تتمنى الدول العربية المنقسمة، إذ إنه ليس بالأماني وحدها توقف الحروب وتحل النزاعات وتحقق الغايات وتنال الحريات. * متخصص في شؤون الاتحاد الأوروبي [email protected]