في أكتوبر 64 وفي أبريل 1985م طالبنا بالديمقراطية وحققناها في المرتين لكنها لم تعش طويلاً، وعندما سقطت في مايو 69 وفي أبريل 1985م فإن أحداً لم ينزل إلى الشارع مطالباً باستمرارها! رغم أنه في الحالة الثانية كان هناك ميثاق للدفاع عن الديمقراطية وقعت عليه الأحزاب. وكانت الديمقراطية السودانية سقطت للمرة الأولى بأغرب انقلاب عسكري، فقد قبلت الحكومة القائمة - كما قالوا - التي كان يرأسها الأمين العام لحزب الأمة؛ العميد عبدالله خليل، نفسها، بتسليم الحكم للقوات المسلحة، وكان ذلك في يوم 17 نوفمبر 1985م. وأيضاً لم يخرج أحد ذلك اليوم مطالباً باستمرار النظام الديمقراطي.. وكنا مارسنا الديمقراطية بمفهومها الغربي الذي هو أشهر مفاهيمها في نوفمبر 1983م أيام الحكم الذاتي الذي كان هو المقدمة للاستقلال الذي تحقق منتصف خمسينات القرن الماضي. وخلال الديمقراطية الأولى التي انهارت في نوفمبر 1985م كان في العالم العربي بلدان ديمقراطيان، بالإضافة للسودان، هما لبنان والعراق، وقد سقطت ديمقراطية هذا الأخير بانقلاب عسكري قاده الضابطان عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف، وبقي لبنان وحده يمارس الديمقراطية إلى أن عاد إلى رحابها السودان بعد ثورة أكتوبر 1964م. وفي ذلك الوقت من الستينات كان التطلع في الشارع العربي إلى الاشتراكية أقوى منه إلى الديمقراطية، وربما كان ذلك بتأثير زعامة الرئيس المصري جمال عبدالناصر الذي كان أوتوقراطياً ولم تكن الديمقراطية من اهتماماته ولا من شواغله. وفي الديمقراطية الثالثة التي عشناها في الفترة من أبريل 85 إلى يونيو 1969م، كانت الاشتراكية في العالم العربي تراجعت كثيراً وانزوت تقريباً في ركن قصي من أركان شبه الجزيرة العربية، وحل مكانها بدرجة محسوسة في الشارع العربي الإسلام السياسي. وكان واضحاً تأثير الثورة الإيرانية التي انتصرت وأطاحت بنظام الشاهنشاه محمد رضا بهلوي في تحقيق المزيد من الاستقطاب في الشارع العربي أو الشرق أوسطي نحو الإسلام. وكان من رأي البعض أن أي انقلاب عسكري يتم في ذلك الوقت من أواخر الثمانينات لا بد - لكي يستمر وينتصر - من أن يكون إسلامياً تماماً، مثلما أنه كان ضرورياً لأي انقلاب عسكري يُنّفذ في الستينات أن يكون اشتراكياً يسارياً، وهذا ما تحقق بالفعل في السودان في مايو 69 ثم في يونيو 1989م. وكنا تعلمنا الديمقراطية أيام الحكم الثنائي الذي كان طرفاه هما بريطانيا ومصر، وبريطانيا كما نعلم هي أم الديمقراطية وكانت لمصر محاولاتها الديمقراطية التي يرجعها البعض إلى القرن التاسع عشر عندما أقامت مجلس شورى النواب، ثم أنشأت بعد ثورة 1919م نظاماً ديمقراطياً، كان من معوقاته نزعة الملك الديكتاتورية والاحتلال البريطاني، وسقطت تلك الديمقراطية المصرية عام 1952م وبعد سنة تقريباً بدأنا هنا في السودان مسيرتنا الديمقراطية..