الاعترافات التي قدمها وزير العدل أول أمس، حول أن نيابة الثراء الحرام والمشبوه لم تكن مفعلة في الفترات الماضية، وإمهاله شاغلي المناصب الدستورية وقادة الجيش والأمن والشرطة وكبار موظفي الخدمة المدنية، شهراً لتقديم إقرارات الذمة المالية هم وأزواجهم وأبناءهم؛ واجهتها الساحة العامة بردود فعل مختلفة، فبعض الناس قالوا إن هذا القرار جاء متأخراً جداً، لأنه - بحسب ما هو متبع في دول السودان واحد منها - لا بد أن يتم إقرار ذمة أي شخص متقدم لوظيفة عليا أو كان من الدستوريين، خلال شهر من تسلمه السلطة، وهؤلاء استندوا في حديثهم على وجود القانون الذي كان يحتاج فقط إلى تفعيل من تلك الجهات المختصة. آخرون مضوا في البحث عن ما وراء هذا التصريح، واعتبروا أن من بين الأسباب التي دعت الحكومة؛ ممثلة في وزير العدل؛ إلى الخروج بمثل هذا التصريح، هو كثرة الحديث هذه الأيام عن الفساد وضرورة محاسبة المفسدين، بجانب ارتباط قيام الثورات العربية بقصة فساد أهل السلطة وقياداتها وأسرهم.. أو كما اعتقد أحد المختصين - طلب عدم ذكر اسمه - حينما قال إن كثرة الحديث عن الفساد ونية بعض الجهات فتح هذه الملفات دعا الحكومة إلى الإعلان عن هذه المسألة، كما أن الحزب الحاكم يواجَه هذه الأيام بصراعات داخلية على مستوى قياداته، ربما تقود بعضهم إلى كشف الملفات المسكوت عنها، ولهذا السبب قصد المسؤولون استباق هذه الاحتمالات. في ما يخص قرار العدل؛ لم ير محدثي جديداً في الأمر، لأن قانون الثراء الحرام والمشبوه موجود وقديم (حسب تعبيره) وينص على إقرار ذمة الدستوريين وشاغلي المناصب العليا في الخدمة المدنية وأفراد أسرهم قبل تولي المنصب، والقانون كذلك يحظر العمل التجاري الاستثماري عليهم أثناء الخدمة، ويمنع ممارسة المهنة إلا بعد صدور شهادة البحث التي تقوم بحصر ممتلكاتهم، كذلك لا بد من المراجعة والفحص بعد مغادرة الموقع؛ للتأكد من حجم الثروة والممتلكات، لكن هل هذه الإجراءات متبعة في هذه الحكومة؟ ويجيب: «لا أظن، لأن مبدأ طهارة اليد وعدم استغلال الوظيفة لتكوين الثروات الخاصة (ما في إنسان شغال بيهو)» حسب ما يرى. وجزم المختص بعدم جدية الحكومة في تطبيق هذا القرار، أو محاولة الكشف عن ثروات المسؤولين والدستوريين، لأن قبل ذلك هناك مسؤولين اشترطوا قبول المنصب باستمرار أعمالهم التجارية، وظلوا خلال عملهم يجهرون بهذه المسألة رغم تعارضها مع القانون. واقترح المختص أن تكون إدارة الثراء الحرام والمشبوه تحت إشراف وسيطرة الرئيس، ووزير العدل يمكن أن يكون رئيساً بصفته مستشاراً للدولة، لكن الوزير ليست لديه ولاية على الآخرين، لذلك لا يستطيع مراجعتهم. ثم سأل عن الأسباب التي دعت الحكومة إلى تفعيل نيابة الثراء الحرام والمشبوه بعد أن فعل بعضهم «ما فعلوا»؟ وانتقد حديث وزير العدل عن أن إقرارات الذمة المالية التي ستسلم إلى رئاسة إدارة مكافحة الثراء الحرام والمشبوه بالخرطوم ورئاسات الإدارات القانونية بالولايات، ستخضع للسرية ولن يُطَّلع عليها إلا عبر لجنة مختصة للفحص، برئاسته. وقال: «لماذا يكون الإقرار سرياً؟ أين الشفافية؟»، وأكد أن للشعب الحق في الاطلاع على إقرار المسؤول من خلال سجله حتى يعرف حجم ثرواته، ويقارن بين حجمها قبل تولي الوظيفة وبعد مغادرته الموقع. وأشار إلى أنه قبل انقطاع صلته بالجهاز التنفيذي حاول نقل إدارة الثراء الحرام والمشبوه إلى رئاسة الجمهورية، وتفعيل قانونها، لكن هذه الفكرة وئدت، وأصبحت الملاحقات تتم فقط لبعض التجار بينما أسقط الجانب السياسي المتعلق بالذمة. وأبدى في خواتيم حديثه عدم تفاؤله بتطبيق هذا المنهج، واعتبر ما ذكر بمثابة ذر الرماد على العيون. وفي السياق، رأى علي السيد المحامي، أن الكشف عن الفساد يتم علناً وليس سراً، كما فُهم من إشارة وزير العدل إلى أن الإقرارات ستكون سرية. وأضاف أن الفساد يحارب بإتاحة الحرية للصحف التي عادة ما تقوم بكشفه كما الحال في الدول الغربية. ودعا السيد إلى محاربة فساد النظام، لأن المشكلة ليست محصورة في اختلاسات الموظفين. وفسر ما تنوي الحكومة اتخاذه من خطوات في هذا الاتجاه بأنه بمثابة التغبيش والتستر على الفساد، قبل أن يقول: «هذا في حد ذاته إقرار بالفساد، وللأسف الإقرارات ستتم منذ الآن فصاعداً، دون الرجوع إلى السنوات الماضية»، وقال: «مثلاً الدستوري أو الوزير طلب منه قبل ذلك إقرار للذمة المالية، ولم يفعل ذلك، وإذا أراد أن يفعله الآن سيتم الإقرار بما فيه من فساد سابق وهذا تقنين لما تم من فساد»، وقلل من شأن هذا القرار حينما قال: «المسؤول أو الدستوري يمكنه استخدام أسماء أقاربه تجاوزاً للرقابة التي يمكن أن تفرض على أسرته الصغيرة». فيما رأى أحمد المفتي أن هذا الإجراء خطوة في الاتجاه الصحيح لمكافحة الفساد، إلا أنه قال: «وزير العدل يملك الصلاحيات والسلطات الكافية لمحاربة الفساد، لذلك لا أرى داعياً لهذه اللجان»، ووفقاً للمفتي فإن «إقرار الذمة سلاح ذو حدين، فإذا اتخذ لبراءة الذمة فهذا سيكون غير صحيح، لأن الشخص يمكن أن يقر بأنه حصل على هذه الثروة بطريقة صحيحة، لكن السؤال هل كانت طريقة الحصول عليها مشروعة»، وأضاف: «إذا تم فحص هذه الممتلكات وفق القانون فلا غضاضة في ذلك، لأنه لا يجوز تولي منصب إلا بعد إقرار ذمة خلال شهر من تولي الوظيفة». وأكد المفتي أن هناك تراخياً في التطبيق، والمطلوب التفعيل وليس التفكير وتكرار النصوص القانونية الموجودة أصلاً، إذ يجب تفعيل إدارة الثراء الحرام والمشبوه واستخدام الآليات والسلطات بعيداً عن البكاء على اللبن المسكوب. وطالب الجهات المختصة بإجراء مراجعات بين التقرير الأول والتقرير الأخير للشخص، يعقبها فحص ومقارنة، ثم تأتي بعد ذلك خطوة إبراء الذمة المالية، ونبه إلى أن هذا يتطلب تعاوناً وفقاً لتفاصيل العمل والقانون دون مجاملة أو تغطية لأحد، مؤكداً أنه، قانوناً، لا يجوز الجمع بين الوظيفة العليا والعمل الخاص، وأن ما ينقصنا هنا هو تفعيل هذا المبدأ. ويبقى السؤال: هل يستطيع وزير العدل نقل هذا الإقرار من الحيز النظري إلى الأطر العملية؟ أم سيواجه بمجموعات ضغط، ويصبح القرار بالونة اختبار لامتصاص حماس بعض الناس الذين طرحوا قضية الفساد على طاولة الساحات العامة؟!