تقوقع منسحباً داخل كرسيه الوثير متخذاً وضعاً أقرب للوضع الجنيني، كإحدى حيل الفعل الباطن، متفادياً ما قذفت به (الأهرام اليوم) في وجهه من أسئلة تردد صداها مرتبطاً باسمه.. لفافات تضمنت حزمة من التساؤلات: لمصلحة من حُظر تشغيل أجهزة التنفس الاصطناعي والفشل الكلوي، رغم حداثتها وحالتها الممتازة، رغم احتياج المرضى إليها؟ وما هي حكاية المهندسة التي تعطل الأجهزة لتبيعها لشركة التدريب الطبية القابعة بإحدى شوارع الخرطوم الرئيسية، وماهي قصة (التانكر) الذي سحب في اليوم مليوناً ونصف مليون قبل أن يسحب مياه الصرف الصحي؟ وما هي أعجوبة شراء الأجهزة ب (السستم) الإداري ثم إرجاعها في ما بعد إلى شركاتها مقابل عمولة متفق عليها؟ وما هي علاقة المدير الإداري بالقطاع الاستثماري؟ هل سقطت من الذاكرة رهبة القسم الطبي وقشعريرة اليمين وتهاون النفس في طريق السقوط المريع.. حيث يستثمر الطبيب في أنفاس مريضة تصارع من أجل ابنها وتنظر إليه متعشمة في شهقة هواء نقي تهبها الحياة من جديد.. هل فعلاً يمكن غض النظر في مثل هذه االحالة.. هل يمكن أن تلغي لغة الملايين لغة الرحمة؟ { انتظار وترقب عندما أشارت عقارب الساعة إلى الثانية عشرة إلا ربعاً ظهراً وقفت أمام بناية ذلك المستشفى الحكومي انتظر موعداً تبقى عليه ربع ساعة، أجريت اتصالاً هاتفياً بمصدري لمزيد من التأكيد على حضوره، لأني على الانتظار في الكافتيريا المواجهة، ولو أبرزت هويتي سوف يتبعني من يراقبني حسب توجيهات مساعد المدير العام الذي يوصي برصد تحركات الصحفيين.. بقيت برهة مستندة على سور المستشفى أراقب سيارات الإسعاف المنطلقة وقد تمازجت صافراتها بصيحات أقارب المرضى وهم يركضون خلفها عساهم يردون ما أصاب عزيزهم.. المشهد المهيب تتخللته رائحة الصرف الصحي التي تسجيب إليها أنوف المصابين بالحساسية والرشح، حيث تطفح المياه من كسورات الصرف الصحي وتبرز لافتة سقيمة متآكلة هناك.. كان أبناء بلدي بسجياتهم المتواضعة ورقة حالهم البادية يقفون على الباب يطلبون العلاج أو يرجون زيارة أقاربهم، وحارسه يرد ذاك ويدخل هذا، يتهلل للبعض ويشح بوجهه عن آخرين. بعد ذلك تحركت صوب الكافتيريا المواجهة حيث وعدني مصدري.. فضلت البقاء بالخارج في مواجهة المستشفى أرى البناية الفخمة التي شيدت كجزء استثماري تم تجهيزه بالمليارات، هي كانت قريبة جداً من المستشفى الحكومي القديم بحكم المسافة، ولكنها بعيدة بعداً شاسعاً بحساب الأموال والإمكانات.. لم أكن وحدي في مواجهة تلك المفارقة بين الاثنين، بل كان هنالك الكثيرون من ذوي المرضى يحملقون بنظرات تائهة وينظرون شذراً وربما غبناً إلى المفارقة الماثلة.. مرت اللحظات أفكر وأتوقع ما سوف يفصح عنه مصدري، إلا أن حبل افكاري لم يمتد طويلاً.. رن جرس هاتفي وفي ذات اللحظة ظهر خلفي مصدر لم يسبق لي رؤيته، ظننته سوف يدخلني المستشفى إلا أنه قال لي إن حديثنا لا بد أن يكون خارج المستشفي لأن بالداخل جواسيس، حسب قوله. لكن في عرف التحقيقات تأكدت من أن الأمر جلل، دلفت برفقة المصدر داخل الكافتريا التي كانت تعج بأصوات المسجلات الصاخبة التي تتداخل مع غمامة بخور التيمان ورائحته.. كان الدور الأرضي مزدحما تماماً، اعتلينا السلم الخشبي إلى الدور العلوي، وُضعت أمامنا مشروبات غازية لم نعرها اهتماماً، حيث بدأ المصدر يكشف بطريقة مرتبة عن معلوماته.. كانت تخرج كلماته من القلب ممزوجة بمرارة وقلة حيلة. { تعطيل الأجهزة استطرد المصدر كاشفاً الستار عن مأساة المرضى بالمستشفي وأزمة ضحايا العناية المكثفة (I.C.U)، موضحاً أن المستشفى يعمل به جهازان فقط للتنفس الاصطناعي من أصل خمسة أجهزة، بينها جهازان جديدان تبرع بهم الخيرون بمبلغ (300) مليون لدعم العلاج المجاني، وآخر بحالة ممتازة، يقوم مساعد المدير العام بتوجيه المختصين بعدم تشغيلها، وإذا قام أحد المهندسين بتشغيلها تثور ثائرته ويتوعّد قائلاً: (البمشي معاي كويس بعيش والما يمشي الدايروا يسوّي والما عجبو يمشي) ليصبح المريض أمام خيارين، أولهما أن يذهب للجزء الاستثماري من المستشفى، وبذلك يكون حدث المراد، حيث يطالب المريض بإيداع مبلغ خمسة ملايين تحت الحساب ويحصل على خدمات تتمثل في وضعه في جهاز التنفسي الاصطناعي بمليون ونصف وخدمات تمريض ب (150) جنيها، وزيارة الطبيب لمرة واحدة فقط ب (100) جنيه، وكلما استدعت الحالة يدفع (100) جنيه، أما الخيار الآخر إذا صمم المريض على العلاج المجاني فيتم تنفيسه بجهاز (أموباك)، وهو عبارة عن (منفاخ) يُدار بطريقة يدوية يؤدي إلى تلف الرئة في حالة تكراره، بجانب أنه مرهق للسسترات اللآئي غالباً ما يتضجرن. { أين اختفى (سيدسكان) ويواصل المصدر حديثه ل (الأهرام اليوم) كاشفاً عن المستور، قائلاً: هنالك جهاز (سيدسكان) أُحضر إلى المستشفى، وهو خاص بالأشعة المقطعية للرأس للمصابين في الحوادث، وقال إنه تم تحويله للعلاج الاستثماري، وأكد المصدر أن مهندسة تتصرف في بيع أجهزة المستشفى بعلم مساعد المدير العام الذي يبارك خطواتها، حيث قامت مؤخراً ببيع جهازين من أجهزة الفشل الكوي تكلفة الواحد (150) مليون، باعتهما بمبلغ (30) مليون فقط لصالح شركة لتدريب المهندسين الطبيين تقع في أحد شوارع الخرطوم الرئيسية، وكُشف الأمر عندما قام صاحب الشركة بالاتصال بزملائه شاكياً تلك المهندسة، سيدة الصفقة، بقوله إنها رفضت تخفيض السعر، ويشار إلى أن هذه المهندسة تقوم بشراء أجهزة لصالح المستشفى بالسستم الإداري ويتم إحضارها إلى المستشفى ويقومون بإرجاعها إلى الجهة التي تم الشراء منها ويردون لهم المال بعمولة متفق عليها. وأضاف المصدر أن مساعد المدير العام قام بإحضار (تنكر) لسحب مياه الصرف الصحي من المستشفى، وكان من قبل يسحب دورين بمبلغ (250) ألف جنيه، والآن أحضر تنكر (أكبر) يسحب ثلاثة أدوار بمبلغ (500) ألف جنيه للدور الواحد، لتصبح التكلفة الكلية في اليوم الواحد (مليون ونصف)، وقال إن الاخير مملوك لأحد أقاربه، واصفاً الأول بأنه كان كافياً للغرض. { تلجين الأجهزة أكد المصدر ل (الأهرام اليوم) أن تلك المهندسة قامت ب (تلجين) جهازين لغسيل الكلى على اعتبار أنهما غير صالحين للاستعمال، في الوقت الذي لا تحتاج فيه صيانتهما لأكثر من (200) جنيه، وقال: تحضر لجنة من وزارة الصحة لمعاينة الأجهزة، وهي تكون قد لعبت لعبتها مستغلة خبرتها في الأجهزة، واحياناً تقوم فقط بإغلاق الجهاز حتى يسمح لها بإخراجه من المستشفى وبيعه، أو تقوم بسحب قطع غياره وبيعها في الخارج. إلى هنا انتهى حديث المصدر { معاينة الأجهزة إلا أن (الأهرام اليوم) رأت ضرورة معاينة الأجهزة والوقوف عليها مقتحمة سور المستشفى الحكومي، تجولت لمدة أسبوع بين المرضى والأجهزة.. دخلت من بوابة المستشفى الاستثماري، كان يعينني في تلك الخطوات مصدر بالداخل، أشار إليّ بالدخول، حيث كانت أولى محطاتي بداخل المستشفى وحدة غسيل الكلى.. جلس شخص عند المدخل وظل المصدر يسأل أسئلة روتينية حتى نتمكن من التجوال بصورة عادية، كانت كميّة من الأجهزة تتكدس بالخارج بينما ترقد العديد من العظام الشاحبة على الأسرة، كلهم منهكون لأنهم أجروا الغسيل قبل ساعات، الأمر الذي دعاني إلى أن أحمد الله كثيراً على نعمة العافية، أقلها أنها لا تجعلك تحت رحمة من لا يرحم.. جلست لمدة ربع ساعة، ظل المصدر يسأل عن قائمة أشخاص، وخاصة تلك المهندسة التي تأتي دوماً برفقة والدها، ولا أدري لماذا، لكنها المهندسة التي تبيع الأجهزة، حتى صارت الفرصة مواتية لالتقاط الصور للاجهزة المحظور تشغيلها.. ذهبنا إلى صالة أخرى حوت أجهزة التنفس الاصطناعي، وبخبرة المصدر بدهاليز المستشفى وخباياه التقط الصور وكان هنالك شخص يرمقنا من بعيد. { في العناية المكثفة انتحلت حالة من لديه مريض وذهبت إلى المدير الطبي، أخبرته أن لدي مريض أريد نقله إلى العناية المكثفة وهو محول من إحدى المستشفيات، قال لي: (هل وجدت له بيتاً)؟ يعني غرف خاصة.. ذهبت إلى العناية المكثفة وكانت الإجابة المتوقعة: لا يوجد جهاز خال ولا يوجد حل غير القطاع الاستثماري. توجهت إليه سريعاً حيث كان مكتظاً عن آخره بالمرضى، وقابلت المسؤول عن الاستفسارات والأسعار فأكد لي ضرورة وضع (5) ملايين تحت الحساب، ثم بعد ذلك نرى ماذا يحتاج المريض، سواء أكان جهاز التنفس الاصطناعي الذي تكلفته كما ذكرنا مليون ونصف المليون، أو الخدمات التي ورد ذكرها في سياق التحقيق. { مقابلة مع مساعد المدير أجريت اتصالاً بالدكتور (....) الذي بادرني بالسؤال عن ماذا خلف المقابلة الصحفية.. حضرت إلى مكتبه وطلب مني مقابلة المدير العام، واخبرته أنني منذ أربعة أيام أتجول في أروقة ودهاليز هذه المستشفى وبها العديد من المشاكل التي ارتبط هو شخصياً ببعضها، أعلمته أن تحقيقي مكتمل الأركان وقذفت إليه بتلك الاتهامات، وعلا صوته متوعداً بأنه سوف يأخذ حقه، إلا إنني هدأت من روعه ثم أردفت بالقول إن الأمر مثبت ووقفت عليه بنفسي، وظللت أحاصره بالتساؤلات وأنظر إليه نظرات تعامل معها منزوياً داخل كرسيه، حيث لم يبدُ منه غير وجهه وجزء من كتفيه، كأنه يستجيب لنداء عقله الباطن الذي يوعز إليه بالهروب، وسألني بعد تكرار الاتصال به: أين وجدت هاتفي؟ أخبرته بمن أعطاني إياه، ولم يمض على خروجي من المستشفي سوى دقائق حتى اتصلت بي تلك الزميلة التي سألها لماذا اعطتني هاتفه، فأجابته: من أجل (الشغل)، وهو شخصية عامة، واتّصل بالمصدر محاولاً الوصول إليّ من أجل أن يمنعني من إجراء هذا التحقيق.