هكذا أصبحت اتفاقية نيفاشا «الكارثة» تتحكم في مصير ومستقبل السودان. لقد استغلت الصهيونية العالمية قضية جنوب السودان كثغرة واهنة في سياج الأمن القومي السوداني نفذت من خلالها إلى تحقيق مخططها الداينميكي الكبير الساعي بقوة لتفتيت وتمزيق وحدة البلاد بانفصال الجنوب كمرحلة أولى ثم التمهيد لبقية المراحل اللاحقة عبر بروتوكول المناطق الثلاث الذي وضعه القس اليهودي جون دانفورث. لقد مثّل هذا البروتوكول خرقاً واضحاً للاتفاق الإطاري بمشاكوس الذي اتفق فيه الشريكان على أن الحدود الفاصلة بين الشمال والجنوب هي حدود أول يناير 1956م. لقد شكّل هذا البروتوكول سنداً قانونياً قوياً للحركة الشعبية والقوى الأجنبية الداعمة لها للتدخُّل في الشأن الداخلي لشمال السودان، وبذا فإن هذا البروتوكول قد أصبح يمثِّل الثغرة الواهنة الجديدة في سياج الأمن القومي السوداني التي يمكن عبرها تحويل السودان إلى دولة فاشلة ومفككة ومجزأة إلى دويلات صغيرة. باختصار شديد لقد رهنت اتفاقية السلام الشامل مستقبل ومصير السودان وسيادته الوطنية للقوى الأجنبية لتتحكم فيه كما تشاء بعد أن أعطتها هذه الاتفاقية المسوِّغات القانونية لذلك. بروتوكول الترتيبات الأمنية هو الآخر صناعة أمريكية أدى دوره بنجاح تام في إضعاف شمال السودان حيث تم الانسحاب المبكر للقوات المسلحة من الجنوب قبل إجراء عملية الاستفتاء ومعرفة نتيجته مما قاد الحركة الشعبية إلى تزوير إرادة المواطنين. لقد أدى هذا البروتوكول إلى تأزيم الموقف بين الشريكين وبرهن على فشل تجربة القوات المشتركة وما تعرّضت له قواتنا بمنطقة أبيي من هجوم غادر قام به الجيش الشعبي في مايو 2008م يؤكد صحة ذلك، هذا بالإضافة إلى الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة ملكال وبقية الخروقات الأخرى التي قام بها الجيش الشعبي وتجاوزتها القوات المسلحة بانضباط عسكري عالٍ ومهنية راقية وروح وطنية فريدة وصبر وجلد من أجل الحفاظ على السلام (الكاذب) الذي أتت به اتفاقية السلام الشامل. أما كمين أبيي الأخير فإنه يُعبِّر عن مسرحية هزيلة سيئة الإخراج اشركت فيها الأممالمتحدة وقوات اليونميس والجيش الشعبي المغلوب على أمره لأن هذا الكمين ليس في مصلحته ولكنه يخدم أجندة خاصة بالمجتمع الدولي. عدم إدانة الأممالمتحدة للحركة الشعبية التي نفّذت هذا الكمين وعدم إدانة اليونميس يؤكد أن هذا الكمين كان مدبّراً بواسطة الأممالمتحدة التي سعت من خلاله لتحقيق أهداف سياسية خاصة بعد إعلان الحكومة لموقفها الداعي لإنهاء تفويض قوات اليونميس في التاسع من يوليو القادم، وما يؤكد صحة ذلك أن هذا الكمين قد جاء متزامناً مع الزيارة المُعلنة لأعضاء مجلس الأمن الدولي لمنطقة أبيي حيث أن المقصود هو أن يرفع المجلس عند عودته لمقره بنيويورك تقريراً يشير إلى عدم استتباب الأمن بالمنطقة ويوصي بأهمية وضرورة تجديد التفويض لقوات اليونميس مع زيادة قواتها وتحويل مهامها لتصبح تحت الفصل السابع تحت دعاوى حماية المدنيين والمقصود من كل ذلك إعطاء الفرصة لتدخُّل دولي واسع حتى يتسنى للقوى الدولية المعادية للسودان تنفيذ السيناريو الخاص بتمزيقه وتفتيته. القوات المسلحة بحسها الأمني والوطني وإدراكها التام لحجم التآمر الدولي الذي تتعرض له البلاد قامت بتأمين المنطقة حتى شمال بحر العرب من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار وحماية المواطنين وكل هذا يأتي في إطار مسؤوليتها ويتماشى مع اتفاقية السلام الشامل، كما يدعم موقف القوات المسلحة في هذا الشأن الاتفاق الإطاري بمشاكوس. تأمين القوات المسلحة لمنطقة أبيي حتى شمال بحر العرب شكّل مفاجأة غير سارة للأمم المتحدة والدول الغربية خاصة فرنسا وبريطانيا والحركة الشعبية وأحدث حراكاً سياسياً واسعاً على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية ووضع القضية في أسبقية متقدمة. كمين أبيي كان عبارة عن رد فعل سريع ليغطي على قرار الحكومة بعدم التجديد لبعثة الأممالمتحدة بعد التاسع من يوليو القادم حتى يبرهن هذا الكمين على عدم استقرار المنطقة ليتسنى للأمم المتحدة تجديد تفويض قوات اليونميس وما يؤكد صحة ذلك أن رد الفعل من مجلس الأمن الدولي كان سريعاً جداً مطالباً بانسحاب القوات المسلحة من المنطقة لأن ما قامت به القوات المسلحة أربك كل حساباتهم ومخططاتهم المشبوهة. من إيجابيات كمين أبيي أنه قد وضع قضية أبيي في إطارها الصحيح وحوّلها من صراع قبائل إلى صراع دولي وهذا يعتبر تحوُّل نوعي في القضية سيعجِّل بإيجاد الحلول السريعة لها. مجلس الأمن الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الغربية خاصة فرنسا وبريطانيا طالب السودان بسحب قواته فوراً من المنطقة ولا شك أن ذلك يمثِّل استهدافاً للسودان، لأن هذا الموقف من المجلس يعتبر غير محايد وموقف متحامل على السودان ويعتبر موقفاً مسانداً للحركة الشعبية وفيه إشارات خاطئة للحركة الشعبية للاستمرار في تعنُّتها حتى لا تقبل بأي حلول في قضية أبيي وبقية القضايا الأخرى التي ما زالت عالقة حتى يكون هنالك مبرر للتدخُّل الدولي. حلقات التآمر على السودان بدت واضحة للعيان حيث بدأت تلوح في الأفق بوادر تكرار تجربة عمليات شد الأطراف ثم بترها وذلك واضح من خلال التهديدات باحتلال مدينة الدمازين ونقل الحرب للخرطوم وتصعيد الموقف بولاية جنوب كردفان وتوحيد حركة عبدالواحد وحركة مناوي لتصعيد الموقف بدارفور والتهديد بالهجوم على الخرطوم من منطقة بحر الغزال بمساعدة ودعم حركات التمرد بدارفور عن طريق التحرك على شارع الأسفلت ويتم كل ذلك بتنسيق تام مع قوى داخلية. هذا بالإضافة إلى تهديدات الحركة الشعبية باستعادة منطقة أبيي. لا أتوقع أن يتم تنفيذ كل تلك التهديدات في الوقت الحاضر وذلك نسبة لقرب إعلان ميلاد دولة الجنوب الوليدة وازدياد النشاط العسكري الذي تقوم به الفصائل المنشقة عن الحركة الشعبية ودخول فصل الخريف هذا بالإضافة إلى أن أي تدخُّل خارجي يحتاج إلى وقت كبير للإعداد والتجهيز له ولهذا من المتوقع أن يتم تنفيذ تلك التهديدات مع بداية العام الجديد. أتوقع أن تقوم الحركة الشعبية برد فعل سريع محدود بتصعيد العمليات بدارفور أو في منطقة جنوب النيل الأزرق أو أي منطقة حدودية معزولة وهذا يدعونا لرفع درجات الاستعداد والحذر واليقظة التامة. السودان أصبح لديه تجربة كبيرة كسبها من خلال عمليات شد الأطراف الأولى التي قادتها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة وهي تقل معها في طائرتها التي تجوب بها على الدول المجاورة المشاركة في العملية عناصر المعارضة مع انطلاق العمليات قالت لعناصر المعارضة: «استعدوا الآن للعودة إلى حكم بلادكم»!! لقد قاد نجاح السودان في إفشال تلك العمليات القوى المعادية إلى تغيير سياستها التي اتبعتها لإسقاط الحكومة عن طريق العمل العسكري إلى العمل على إسقاطها عن طريق اتفاقيات السلام المشبوهة. المطلوب هنا تكرار نفس أسلوب ملحمة عمليات إفشال شد الأطراف السابقة وتأمين الجبهة الداخلية عن طريق الوحدة الوطنية. خلاصة القول إن القوات المسلحة قد حققت نصراً غالياً حيث أنها وصلت إلى حدود البلاد السياسية من الناحية الجنوبية وعلى الساسة عدم إضاعة هذا النصر الغالي كما ضيعوه في عمليات صيف العبور التي قلبت موازين القوى بالمنطقة وحوّلت الحركة الشعبية إلى جيوب متفرقة بدول الجوار، وكما ضيعوه في ملحمة توريت التاريخية، وكما ضيعوه في إفشال عمليات شد الأطراف السابقة. لقد برهنت القوات المسلحة في كل المراحل على أنها هي التي تمثِّل صمام الأمام للسودان وأنها تملك مفاتيح الحل لكل مشاكل البلاد وأنها هي القادرة على صنع السلام الحقيقي بكسرها لبندقية حركات التمرد التي تناسلت حتى تبرهن لهذه الحركات عملياً بأن حمل السلاح في وجه الدولة لا يحقق لهم أي مطالب سياسية. الحلول السياسية تعتبر حلولاً وسطية ولا تحقق سلاماً دائماً، ولقد برهنت التجربة العملية على فشلها الذريع. علم إدارة الأزمات في هذا الإطار يشير إلى أن السلام لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق الإدارة الرشيدة للأزمة باستخدام أدوات المساومة التوفيقية التعايشية والضاغطة الإكراهية معاً. إنها نفس سياسة العصا والجزرة التي تتبعها الولاياتالمتحدةالأمريكية في حوارها مع السودان. وهذا يعني أن الإدارة الأمريكية تُطبِّق أسلوب إدارة الأزمات بطريقة صحيحة. قال روبرت تاير في كتابه «حرب المستضعفين» في إطار مقاومة حرب العصابات قال: «يجب على قوات الحكومة أن تدمر العصابات عن طريق تدمير وعودها والبرهنة عسكرياً بأنها لا يمكن أن تنجح ولن تنجح». هذا يعني أنه لابد من الاهتمام بعملية التدمير لعناصر التمرد بصورة رئيسة أكثر من عملية تحرير الأرض ولو طبّقنا ذلك في عمليات صيف العبور لما كانت هنالك حاجة لعقد اتفاقيات سلام مشبوهة. بعد التدمير الكامل لعناصر التمرد يتم إفساح المجال للعمل السياسي ليتوَّج النجاح العسكري الذي تحقق. ذلك هو الأسلوب النموذجي لمعالجة قضايا حركات التمرد. ورُبَّ ضارة نافعة لقد أعاد كمين أبيي للحكومة الفرصة التاريخية التي أضاعتها بموافقتها على إجراء استفتاء تقرير المصير لجنوب السودان قبل إجراء استفتاء منطقة أبيي وإجراء المشورة الشعبية لولاية جنوب كردفان وولاية النيل الأزرق بالرغم من أن اتفاقية السلام الشامل قد نصت على أن يتم كل ذلك بالتزامن مع إجراء استفتاء تقرير المصير لجنوب السودان. علينا الاستفادة من أخطائنا وألا نكرر تجربة الانسحاب من الجنوب قبل إجراء عملية الاستفتاء ومعرفة نتائجها. على القوات المسلحة التمسُّك بمواقعها الحالية بمنطقة أبيي وألا تنسحب منها إلا بعد إجراء عملية الاستفتاء وإعلان نتائجه وأن يتم ربط إجراء الاستفتاء بحسم كافة المشاكل العالقة. أما الحديث الذي يدور حالياً عن إمكانية الانسحاب وفق ترتيبات أمنية جديدة فإنه يعبِّر عن روح انهزامية لأن تجربة القوات المشتركة قد ثبت فشلها. وتجربة قوات اليونميس قد فشلت هي الأخرى لأنها غير محايدة. حذارى ثم حذارى من تجربة الشرطة الدولية والقبول بأن تكون منطقة أبيي منزوعة السلاح لأن ذلك سيقود للوصاية الدولية. على الحكومة أن تبني سياساتها وإستراتيجياتها في القضايا المصيرية والإستراتيجية على أسوأ الفروض حتى لا تتفاجأ كما تفاجأت بالنتائج الكارثية لاتفاقية نيفاشا. ختاماً أدعموا القوات المسلحة ووفِّروا لها كل احتياجاتها وأرفعوا من معنوياتها وأمِّنوا ظهرها بتماسك الجبهة الداخلية والوحدة الوطنية ثم أسألوها عن تحقيق السلام الدائم في كل ربوع السودان. وبالله التوفيق،، فريق أول ركن/ زمالة كلية الدفاع الوطني أكاديمية نميري العسكرية العليا