{ القضايا العالقة يقولون إنها خمس عشرة قضية، وآخرون يقولون أقل من ذلك، وعلى رأس هذه القضايا قضية أبيي والديون والحدود وتوفيق أوضاع موظفي الخدمة المدنيّة والعسكريّة من الطرفين، كل في دولة الطرف الآخر، وهذه وحدها تكلف حكومة الشمال بليوني دولار، بالإضافة إلى قضايا أخرى من بينها قضية التجار الشماليين بالجنوب، إن صدق ما يقال إنها علّقت مع القضايا المعلقة (ناس افتّشوا لي قضيتهم عشان إعلقوها ما لاقين ليها طريقة.. مساكين التجار الشماليين). { يبدو أن المعادلة اختلفت تماماً بعد أن تأكد لحكومة الشمال أن الطريقة التي كانت (تدلع) بها الحركة الشعبية لا تجدي نفعاً، وبعد أن تأكد للحركة الشعبية وقطاعها أن حكومة الشمال وشعب الشمال مستعدون أن يحاربوا من أجل شبر وفي وجه أي (حقارة) أو (قلة أدب)، فبالأمس كانت حكومتنا تهرول الى جوبا لحل أي إشكالية من منطلق المسؤولية تجاه السلام الذي توصلوا إليه وأملاً في الوحدة من باب المسؤولية التاريخية والبعد المعنوي المصحوب بتحمل الأذى حتى لا يقال إن الإنقاذيين انفصل في عهدهم الجنوب، أما غير ذلك فهم قبل غيرهم يعلمون أن الوحدة خاسرة اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً، فقط هي مجرد مكسب سياسي يُبقي كل شيء على حاله. { منذ يوم الردع المزلزل في أبيي صارت الحركة الشعبية هي التي تهرول نحو الخرطوم، والخرطوم تتمنع وتشيح عن «ريك مشار»، نائب رئيس حكومة الجنوب، وتؤجل في لقائه بنائب رئيس الجمهورية، وهو ينتظر حتى يفوز بلقائه، وعلى الطرق القومية السريعة تنطلق كتائب القوات المسلحة نحو الشريط الحدودي لتبر بقسمها وتنجز وعدها قبل أن ينقضي الأسبوع الذي أمهلته للجيش الشعبي وجيوش قطاع الشمال التي أمامها الدمج وفق إجراءات القوات المسلحة ومعاييرها أو التسريح والعودة للحياة المدنية داخل دولة الشمال في نسختها الجديدة، وقبل كل ذلك توفق الحركة الشعبية أوضاعهم وتمنحهم حقوقهم كاملة غير منقوصة نظير سنوات الخدمة التي خدموا فيها مشروع انفصال جنوب السودان. { أبيي كانت موضوع زيارة سرية في العام 1984م قام بها وفد علمي من جامعة هارفر ووكالة ناسا للفضاء، التقى الرئيس نميري، وقد أخطر الوفد الرئيس بأبحاث كانوا يجرونها لسنوات انتهت بأن أبيي هي أعمق نقطة تحت الأرض تحتفظ بالماء، وبهذا فإن أبيي تستعوض مخزونها من المياه من النقاط التي ترتفع عنها، وبذلك فإن أبيي هي آخر نقطة تفقد الماء في كوكب الأرض، وعليه فإن المسألة ليست نفطاً كما يتصور البعض، أو بؤرة صراع، وإنما هي بالنسبة للغربيين الماء وحسب. ولمعلومية القارئ الكريم أن منطقة أبيي ليس فيها نفط. { عودة القوات المسلحة إلى أبيي غيرت في تكتيك اللعبة وكشفت الأحجام وأعادت الأمور الى وضعها الطبيعي ومنحت الحكومة في الخرطوم كروتاً كانت بالأمس مبعثرة بيد الحركة الشعبية وصارت المبادرة بيد الحكومة وتستطيع أن تكسب حقوقها دون أن تعتدي على حقوق الآخرين، وها هي الحياة تعود إلى طبيعتها في أبيي، والنازحون من دينكا نقوك بدأوا العودة إلى ديارهم، ونأمل كذلك أن يعود المهجرون من المسيرية إلى ديارهم داخل أبيي، وأن يعود موظفو الخدمة المدنية الذين طردهم الجيش الشعبي وهو يضيّق عليهم ويقتل، وهو بهذه السياسة العنيفة يستبق الاستفتاء ليسلب من المسيرية أغلبيتهم التي تصل إلى نسبة (65%) من مجموع السجل الانتخابي لمنطقة أبيي في الانتخابات الأخيرة. { على الحكومة أن (تقرّض على كدا) وتفاوض وهي تعلم تماماً عدد الكروت التي بيدها، وعلى رأس هذه الكروت كرت الاعتراف بدولة الجنوب، وبدونه لن يهنأوا بدولتهم، وعلى الحكومة السودانية ألا تعترف بدولة ما زالت حدودها غير معلومة، وعلى المفاوض السوداني في أديس أبابا البناء على هذه الكروت وهو يفصل في القضايا العالقة مع خصم بدأ يدرك مخاطر إضاعة الوقت وحقيقة قدراته التي كان يتوهمها، وقبل كل ذلك يدرك المفاوض السوداني أن شعب الشمال يدفع باتجاه مواقفه إن كانت قوية وتحفظ للشمال حقوقه وتصون أراضيه.