لا تخلو مجالس النخبة السودانية واجتماعاتهم الرسمية هذه الأيام من الحديث عن استعدادهم للدخول في مرحلة بناء الجمهورية الثانية، ربما كتعويض نفسي منهم عن عقدة الذنب التي أوجدتها سقطة انفصال جنوب السودان عن شماله، أو ربما كان فعلاً سياسياً حقيقي لبناء سودان جديد. وبغض النظر عن قيمة هذا التعويض وجواز استخدامه، فإنه يقتضي في نظر الكثيرين ممارسة شديد القوة، لإزاحة عدد من الإشكالات التي اعتورت مسيرة الجمهورية السودانية في نسختها الأولى. بهذا الفهم أو قريباً منه أنفقت لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان نحو أربع ساعات في ورشة دعت لها عدداً من الفقهاء القانونيين وثلة من المهتمين بحقوق الإنسان ومثلهم من رجال الدين الإسلامي، للحديث عن حقوق الإنسان في الدستور الذي سيحتكم إليه السودانيون في أعقاب انتهاء العمل بدستور 2005 المعدل، وقال رئيس اللجنة مولانا محمد علي المرضي إن القصد منها إجراء تمرين ديمقراطي في حقوق الإنسان لبلورة أفكار حقوقية يرضاها الجميع. ورغم التعقيدات التي تحيط بالملفين «حقوق الإنسان والدستور» إلا أن الثقة كانت حاضرة عند نائبة رئيس البرلمان سامية أحمد محمد وهي تبتدر النقاش بعبارات مادحة للدستور، قالت فيها إنه من أميز الدساتير السودانية باعتماده لوثيقة خاصة بحقوق الإنسان، وجعله للمواطنة محوراً لبناء مواد الدستور جميعها، لكنها عابت على السودانيين ميلهم لاختزال الدستور كوثيقة سياسية تتداولها النخب، وطالبتهم بالتعامل مع الدستور كشيء مُعاش في حياتهم اليومية، على غرار كثير من الدول التي قالت إنها لم تقم باعتماد دستور مكتوب. وبالطبع فإن بلوغ سامية هذا الحد من الاعتراف حول احتكار النخب للدستور وتفسيره سياسياً، من شأنه أن يثير عدداً من الأسئلة حول الأسباب التي جعلت من النخبة السياسية السودانية جهة واحدة مالكة للدستور.. وما هي الوسائل التي استخدمت لذلك الغرض، ثم من هو صاحب المصلحة الحقيقية في تغييب المواطنين عن معرفة الدستور الذي يقنن حقوقهم؟ ثم ألا يعد هذا الوضع نفسه انتهاكاً لحقوق الإنسان، وهدراً لإنسانيته؟ هذه الأسئلة وغيرها من التساؤلات ربما هي التي قادت شاباً ثلاثينياً للمشاركة في الورشة وهو يحمل في يده ورقة ظل يلوح بها زاعماً أن بها (37) حقاً انسانياً منصوصاً عليه في الدستور، لكنها لا تجد التطبيق، ملتزماً خلال زمن مداخلته بالاستفهام عن أسباب عدم تطبيقها، ليتطابق حديث ذاك الشاب مع انفعالات أستاذ القانون الدستوري البروفيسور بخاري الجعلي الذي تداخل في الورشة وهو يشير إلى أن الدستور الحالي نفسه يعد أكبر انتهاك لحقوق الإنسان، لطبيعة الثنائية بين حزبين قال إن أحدهما ذهب - في إشارة منه إلى الحركة الشعبية - قاطعاً بخطأ فرضه على بقية الشعب السوداني. واعتبر الجعلي أن أي حديث عن حقوق الإنسان بعيداً عن كفالة الحريات يعتبر حرثاً في البحر. وبدوره انتقد مدير مركز الخرطوم لحقوق الإنسان الدكتور أحمد المفتي، الدستور المعمول به الآن، وقال إن حقوق الإنسان فيه تبدو كأنها محشوة حشواً، ووصف الأمر بأنه خلط كبير بين الحقوق الإنسانية التي وردت داخل الوثيقة، وبين نصوص تمت الإشارة إليها في مواد دستورية منفصلة، وهو أمر يغلب عليه عدم الجدية في الالتزام بما جاء في الوثيقة، على حد تعبير المفتي، مشيراً بشكل أساسي إلى إغفال الدستور لإلزامية حق الإنسان في العمل ومبدأ المساواة وعدم التمييز، اللذين قال إنهما وردا في بنود غير واجبة النفاذ. ومن واقع الممارسات السياسية في المنطقة العربية والدول الأقل نمواً يحذر علماء النفس من الانزلاق من هاوية انتهاك حقوق الإنسان إلى مرحلة أخطر منها، أسماها الدكتور مصطفى حجازي بهدر الإنسان، ويعتبره أوسع مدى بحيث يستوعب انتهاك حق الإنسان وقهره، لكونه يؤسس لاستباحة حياة الآخر باعتبارها لا شيء، وعديمة القيمة والحصانة، مما يمكن التصرف فيها. ويقول حجازي إن الهدر يتسع كي يشمل هدر الفكر، وهدر طاقات الشباب ووعيهم، وهدر حقوق المكانة والمواطنة، ويضيف أن الهدر يتفاوت بين انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان كحد أقصى وبين استبعاده وإهماله والاستغناء عن فكره وطاقاته، باعتباره عبئاً أو كياناً فائضاً عن الحاجة، كما يتخذ الهدر طابع تحويل الإنسان إلى أداة لخدمة أغراض العصبيات أو الاستبداد ليضحَّى به في حروب النفوذ باعتباره الوقود الذي يغذّي اشتعالها، أو الأداة التي تبجِّل وتطبِّل لسلطان المستبد وتخدم أغراض هيمنته وتوسيع سطوة نفوذه. وقريباً من حجازي وهدره بدا عضو مجمع الفقه الإسلامي عبد الجليل النذير الكاروري، في ورقته المعنونة بحقوق غير المسلمين في الشريعة الإسلامية، بدا قلقاً من فرح الكثيرين بانفصال جنوب السودان وغياب حالة التعدد، بحثاً عن دولة النقاء العرقي والديني، وهو بالطبع يحذر مما يحدث في التصفيات العرقية تحت شعار العرق النقي، أو شعب الله المختار، الذي عادة ما يحدث في العصبيات الدينية الأصولية التي تعتبر ذاتها الفئة الناجية من الضلال وصاحبة العقيدة الصحيحة، التي يتعين عليها تطهير الأرض من الفئة الضالة، واستعادة نقاء العقيدة واستعادة الفردوس المفقود كالنموذج الإسرائيلي الماثل. وأشار الكاروري إلى خطورة قيام دولة حادة ومتطرفة في شمال السودان بعد التاسع من يوليو المقبل، وقال: إذا كنا ننادي بدولة النقاء العرقي والديني فإنه لا مبرر لنا لانتقاد دولة إسرائيل، وأكد أن سنة الاجتماع نفسها تقوم على أساس التعدد، قبل أن يصف خطوة الانفصال بأنها لم تكن تعبيرًا عن اختلاف عرقي وديني بقدر ما أنها رغبة لمجموعات سياسية، مشيرًا إلى أن السودان طوال تاريخه لم يعرف الصراعات العرقية والإثنية، وأنه يمثل مثالاً حياً لحالة التعايش والتسامح بين مكوناته كافة، منذ دخول الإسلام الذي لم يكن فتحاً، وإنما كان اختيارًا. وقال الكاروري إن البلاد عرفت تعايش الملل المختلفة منذ عهد الممالك المسيحية، ووصف ما يحدث الآن في جنوب كردفان بأنه يمثل امتدادًا للصراعات السياسية التي لا علاقة لاختلاف الاديان بها، وأكد أنه طوال عمله في المفوضية القومية لغير المسلمين لم ترد لهم شكوى تتعلق بهدم دور للعبادة أو اضطهاد شخص على أساس دينه، وقال إن مثال المجتمع النقي دينياً وعرقياً، الذي ينتظره البعض، لن يتحقق على أرض الواقع السوداني البريء من حالة الصراع الديني والعرقي. وروى الكاروري عن زعيم الحركة الشعبية الراحل د. جون قرنق قوله إنه طالب إبان التفاوض في نيفاشا بعلمانية فلم يجدها، وطالب بعاصمة قومية، فرُفض طلبه، ولكنه حصل بسهولة على عدم معاقبة غير المسلمين بالشريعة الإسلامية. وفي ورقته عن دور الأجهزة العدلية في حماية حقوق الإنسان ندد رئيس القضاء السابق «عبيد حاج علي» باستخدام قضايا حقوق الإنسان كفزاعة من قبل الغرب لتطويع النظم غير الموالية للتوجهات الجديدة، مشيراً إلى حق أية دولة في اختيار ما تريده من هذه الحقوق وفقاً لما يتماشى مع موجهات عقائدها الدينية، خصوصاً في ظل ما يراه حاج علي ارتفاعاً في النبرة التي تضع الإسلام كمحور للشر في الفلسفة الغربيةالجديدة، وقال إن الصحوة العربية الجديدة من شأنها أن تعيد الأمور إلى نصابها، ويضيف أن قيام الأجهزة العدلية بدورها في حماية حقوق الإنسان تتطلب مجموعة من الإصلاحات التي تستهدف الوصول لغاية استقلالية القضاء، باعتبارها ضماناً حقيقياً للوصول إلى غاية احترام حقوق الإنسان. وكيفما اتفق الأمر فإن مسألة حقوق الإنسان وحفظها في الدستور تبدو في نظر الكثيرين مدخلاً وحيداً لبناء دولة القانون، الأمر الذي يجعل من البرلمان حامياً لها، إذ يقول الخبير القانوني الدكتور محمد أحمد سالم إن الحماية الحقيقية لحقوق الإنسان تمر عبر بوابة البرلمان باعتباره الجهاز المسؤول عن هذا الأمر، وقال إن أي قانون تتم المصادقة عليه يجب أن يتم وفقاً للمزاوجة بينه وبين قوانين حقوق الإنسان، فضلاً عن تقوية الأجهزة العدلية بمزيد من التأهيل والتدريب وتبسيط إجراءت التقاضي، كما أن عملية التعريف بالحقوق بالنسبة للمواطن تبدو الخطوة الأكثر أهمية بحسبان صعوبة حماية حق فرد لا يعلم هو به، مما يتعين على البرلمان نفسه تبصير الناس بحقوقهم المدنية والسياسية المرتبطة بالحريات، والحق في الحياة والحرية والأمن؛ وعدم التعرض للتعذيب والتحرر من العبودية؛ والمشاركة السياسية وحرية الرأي والتعبير والتفكير والضمير والدين؛ وحرية الاشتراك في الجمعيات والتجمع، فضلاً عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالأمن وتشمل والعمل والتعليم والمستوى اللائق للمعيشة؛ والمأكل والمأوى والرعاية الصحية وحقوقهم البيئية والثقافية والتنموية التي تشمل حق العيش في بيئة نظيفة ومصونة من التدمير؛ والحق في التنمية الثقافية والسياسية والاقتصادية.