فى أول خطاب له بعيد عودته من الصين بحوإلى الثماني ساعات، أطلق الرئيس عمر البشير يد القوات المسلحة للاستمرار في عملياتها بجنوب كردفان (لتطهير الولاية من جيوب المتمردين)، وقال عقب وصوله للخرطوم فجر «الجمعة»، لدى مخاطبته المصلين، بعد صلاة الجمعة بمسجد مجمع النور الإسلامي بكافوري ببحري، وسط تهليل وتكبير المصلين، إن القوات المسلحة لن توقف القتال إلى حين إلقاء القبض على المتمرد عبدالعزيز الحلو وتقديمه للمحاكمة، وأضاف أن الحلو سيظل متمرداً ومجرماً ولن يكون إنسانا عادياً، لأنه قتل المواطنين وروع الآمنين. محاكمة رئيس الحركة الشعبية بجنوب كردفان، قائد الهجوم الذى شنه الجيش الشعبى على حاضرتها (كادوقلى) فى الخامس من يونيو الماضى، عبدالعزيز الحلو، التى حض عليها رئيس الجمهورية، لم تتسق مع جوهر الاتفاق الذى وقعه الموتمر الوطنى - الحزب الحاكم - والحركة الشعبية بالشمال، برعاية الآلية الأفريقية الرفيعة برئاسة ثامو أمبيكى الثلاثاء 27 يونيو الماضى، وذلك قبل 72 ساعة من وصول طائرة البشير مطار الخرطوم. إذ أن الاتفاق لم يشر إلى محاكمة أى من المتسببين فى أحداث جنوب كردفان بمن فيهم عبدالعزيز الحلو، إضافة إلى أن وفد الحركة الشعبية المفاوض كان قد وعد بطرح وإشراك الحلو فى الاتفاق دون أن يجد ذلك رداً حاسماً من وفد المؤتمر الوطنى الذى ترأسه نائب رئيس الحزب للشؤون الحزب، مساعد رئيس الجمهورية؛ د. نافع علي نافع، بل إن عضو وفد الحزب الحاكم؛ مطرف صديق، الذى قدمه د. نافع علي نافع للإجابة عن أسئلة الصحفيين بمطار الخرطوم فور عودتهم من العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، تجاهل الإجابة عن سؤال حول مصير عبدالعزيز الحلو ومن معه ومسألة مطالبة الحكومة بتقديمه ومن معه إلى العدالة، واكتفى قائلاً: لا علم لى بهذا الأمر ولكن الاتفاق سيفتح صفحة جديدة للحوار ويطوى صفحة النزاع. ويرى مراقبون أن توجيه رئيس الجمهورية بالقبض على الحلو يعصف بالاتفاق الذى تأسس على تسوية سياسية تشمل جنوب كردفان إضافة إلى النيل الأزرق وما يسمى بقطاع الشمال للحركة الشعبية الذي بات يمثله ياسر عرمان، والدلالة على أن جنوب كردفان نقطة جوهرية في الاتفاق تتمثل في أن من يمثلها عن الحركة الشعبية (قطاع الشمال) هو عبدالعزيز الحلو المطلوب للعدالة والموصوف ب«المجرم» و»المتمرد». ويشير المراقبون في هذا السياق، إلى أن وفد الحركة الشعبية بالشمال برئاسة مالك عقار يعتزم وضع بنود الاتفاق بين يدى (الحلو)، وهو أمر يؤكد على أن الحلو جزء من اتفاق أديس أبابا. وعلى هذا الأساس يؤكد مراقبون أن توجيهات البشير بشأن ملاحقة الحلو تفتح الباب واسعاً أمام عدة تساؤلات.. هل صادق د. نافع على الاتفاق الإطارى دون الرجوع إلى رئيس الحزب والمكتب القيادى للمؤتمر الوطنى؟ لا سيما وأن الأخير أبدى بعض الملاحظات وتحفظه على بعض مضامين الاتفاق فى اجتماعه الاستثنائى الخميس 30 يونيو الماضى؟ وغير ذلك؛ ما هي قدرة الحكومة على الحسم العسكرى فى جنوب كردفان؟، وما علاقة كل ذلك بالموقف الصينى؟ خاصة وأن البشير أطلق توجيهاته بعيد 8 ساعات من هبوط طائرته مدرج مطار الخرطوم قادماً من بكين. المحلل السياسى البروفسير حسن الساعورى رأى أنه وحكماً على ظاهر الأحداث فإن خطاب رئيس الجمهورية عصف ببنود الاتفاق ال (13)، لكنه استبعد مسألة تجاوز د. نافع لرئيس الجمهورية والمكتب القيادى للمؤتمر الوطنى فى توقيعه على الاتفاق مع الحركة الشعبية، وقال: (ده مستحيل)، ورأى أن ما قاله البشير فى مسجد النور لا يخرج من محاولات رفع سقف التفاوض مع الحركة الشعبية، وأنه فتح الباب واسعاً أمام احتمال إلقاء الأجهزة الأمنية القبض على عبدالعزيز الحلو دون تسريب الأمر إلى أجهزة الإعلام وبسط القوات المسلحة سيطرتها على مناطق الجيش الشعبى بجنوب كردفان، وأضاف: مع هذه الاحتمالات يصبح الاتفاق بحاجة إلى مراجعة وفقاً لمجريات العمليات العسكرية بجنوب كردفان. ولم يستبعد الساعورى حصول البشير على تعهدات من الصين بدعمه فى كافة المجالات وعلى كافة المستويات حفاظاً على مصالحها من تهديد الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقال إن الصين ربما أعطت الضوء الأخضر للحكومة للحسم العسكرى فى جنوب كردفان وكل بؤر التوتر على امتداد القطر، مشيراً إلى أن صراع المصالح لم يعد خافياً على أحد بين بكين وواشنطون، وأكد أن الأخيرة ربما كشفت للرئيس استعدادها لاستخدام حق النقض (الفيتو) ضد أى قرار محتمل يستهدف حكومة الخرطوم، وأشار إلى أنه ووفقاً لذلك فإن تحفظات المكتب القيادى للموتمر الوطني على الاتفاق لا تبتعد من كونها إخراجاً لإيجاد مبررات لتراجع الحزب عما تم الاتفاق عليه والدخول فى العملية التفاوضية من منطلق المنتصر. إفادات الساعورى حول احتمال التدخل الصينى لكسر شوكة الحركة الشعبية وجيشها الشعبى، ربما استقاها من إطناب البشير فى امتداحه نتائج زيارته للصين وتأكيده بأن الزيارة من أنجح الزيارات لرئيس دولة لجمهورية الصين، وقوله أن الرؤساء يأتون إلى الصين ويرجعون ولا أحد يسمع بهم، وإشاراته إلى تطابق الخطابين السوداني والصيني، وقال إن الزيارة أغاظت الأعداء - فى إشارة منه إلى أمريكا، وأضاف: «رغم كيدهم تمت الزيارة بنجاح». اتجاه خطاب البشير نحو الحل العسكرى لحسم ملف جنوب كردفان يضع مقدرة الحكومة وقوتها فى فتح جبهة جديدة للصراع، جنباً إلى جنب مع مشكلة دارفور والتوقعات بدخول ولاية النيل الأزرق ضد الحكومة، على محك التجربة فى ظل ترقب المجتمع الدولى تدفعه واشنطون لكل خطوات الحكومة وانتظار لحظة التدخل على نحو يضعف الخرطوم ويمنح خصومها مساحة لمزيد من التحكم فى مفاصلها وتوجيه دفتها وفق ما يريدونه. المحلل العسكرى العميد أمن (م) حسن بيومى بدا واثقاً من مقدرة القوات المسلحة على حسم الجيش الشعبى فى جنوب كردفان والنيل الأزرق حال دخولها فى الصراع فى زمن وجيز، مشيراً إلى أن التمرد فى جنوب كردفان وغيرها داخل حدود القطر مهمة الأجهزة الأمنية كالشرطة وغيرها وأن الجيش مهمته وعملياته مع الحدود وضد الدول، وقال فى حديثه ل(الأهرام اليوم) إن خطاب البشير ألغى اتفاق أديس أبابا تماماً، ونبه إلى أن الحركة الشعبية وجيشها الشعبى لن تستطيع الصمود لحظات أمام القوات المسلحة، وأضاف أنها مجرد مليشيات وإن تجاوزت أعداد مقاتليها ال 40 أو ال 50 الفاً، وأوضح أن من طبيعة المليشيات تعدد مناطق صنع القرار فيها، وأشار إلى أن ذلك يضعفها بعكس القوات المسلحة التى لفت إلى أن مصدر قرارها واحد. وعلق: القضية ما قضية عدد وإنما القدرة القتالية والقوات المسلحة معروفة بمقدرتها العسكرية، يمكنها حسم هذه المعارك فى زمن وجيز، وأكد أن الموقف التفاوضى إلى حد ما يتوقف على الوجود على الأرض. إذن يبقى أمام المؤتمر الوطني خياران من أجل لملمة أطراف التناقض بين أوامر الرئيس في ملاحقة «الحلو» وبنود اتفاق أديس أبابا ال«13»، وذلك عبر تجاوز ما سمي ب«نيفاشا 2» أو إصرار «الوطني» على أن الاتفاق لا يشمل «الحلو» ومجموعته، وفيما يبدو فإن كلا الخيارين أحلاهما مرٌّ.