أن نتحدث عن الماضي بحلم ما في الحاضر أمر مهم ونبش الماضي يدعو إلى تذكره وتفاعل مع الحاضر ليتواصل مع المستقبل، وهذا النيل هو فعل يسير بحركة التاريخ الذي يشكل وجوداً، واستلهام الحاضر منه لاستشراف المستقبل ومتى كانت حياة الناس نشطة يكون ماضي الناس جزءاً حياً في حاضرهم ومستقبلهم. السر قدور، لم يذكر اسم هذا القامة الرجل، إلا وتناهى إلى أسماعنا إيقاعات تلك الضحكة التي تميزه التي كانت سراً في توصيل رؤية المخرج الرائد عثمان أحمد، وهو يلعب بطولة مسرحية «الرجل الذي ضحك على الملائكة» بسودنة مدير ليوم واحد.. في بداية السبعينيات أتيحت لي فرصة نادرة آنذاك وأنا طالبة في معهد الموسيقى والمسرح بمشاركته في البطولة هو والهادي صديق وبالرغم من انغماسنا في الجو الأكاديمي وتطبيقنا لنظريات التمثيل في تقمص تام لأدوارنا، إلا أن السر قدور الذي كان يضحك على الملائكة - طبقاً للنفى- يضحك علينا أيضاً فيجعلنا ننفصل في أدوارنا فنضحك. فنان شامل لكنه بدأ بفن المسرح منذ تأسيسه في السودان حيث كان همه الأول هو تأكيد وجود المسرح في السودان مع من كانت لهم أيادي بيضاء فقدموا أعمالهم في المساحات المتاحة بين الفواصل الغنائية التي كان لها الأولوية آنذاك، فعاصر الرواد من الشعراء والمطربين، فهو شاهد لعصور وثق فيها لحقب من التاريخ وما زال يوثق بطريقة جمالية غنية بديعة وإشباع ما في نفسه لتنطلق شخصيته المبدعة بقدرة هائلة على الارتجال فحدث أن أغمي علي وأنا على خشبة المسرح أثناء العرض، فقام السر قدور بالارتجال وملأ المساحة إلى أن عدت للخشبة. هو درامي من الطراز الأول يميل إلى الكوميديا التي تطبع شخصيته. في أحد المنتديات التي تقدم في مركز راشد دياب كنت من ضمن الحضور لجلسة فنية غنائية يديرها السر قدور متحدثاً عن فن الغناء فما كان مني إلا أن أخذت ورقة صغيرة كتبت فيها (أنت من قبيلة الدراميين فلماذا تتجاهلهم وتأخذ منحى آخر؟ من قاسمتك بطولة الرجل الذي ضحك على الملائكة) بعد استلامها ضحك ضحكة عالية، فأشار إليها ولم يجب على سؤالي. إن الظروف هي التي تفرض ظلها على الإنسان، فيقع بين ضغوط فورية فهل يملك الإنسان خياراً محدداً في هذه الحياة؟ فالموسيقى بكل عناصرها العلمية المعروفة في الإيقاع إلى الهارموني والطبقات الصوتية تحكم كل الإبداعات الفنية أدباً وتشكيلاً وتعبيراً، فالصورة الأدبية نثراً كانت أم شعراً كانت اللغة في عالم الصوتيات محكومة بموسيقى نابعة من التعابير التي اعتمدتها كقواعد خاصة وقد انعكست الموسيقى على كل تفاصيل المسرح ابتداءً من النص الذي يعتمد على الإيقاع الأدبي والهارموني إلى الممثل بانسجام إيقاعه الشخصي مع إيقاع الشخصية في هارموني متكامل وانسجام تام وفكرة برنامج أغاني وأغاني الذي يقدم من خلال قناة النيل الأزرق هدفها الدخول بالبرنامج لعمق الجذور الحرفية التي تقوده لتوظيف الخبرات المتراكمة للفنانين الرواد ليقدمها جيل آخر بصورة تعكس الواقع بتمازج عبر الفكرة التي تهدف إلى التوثيق. وتتواصل هذه المنظومة تباعاً ويتباهى حضور السر قدور المسرحي كنموذج للرجل الذاكرة، بتقديمه بطريقة كوميدية والسماح باندياحات مؤكدة في القيم التعبيرية الجمالية التلفزيونية المعاصرة باختياره مقدماً للبرنامج وترويض ضحكته المتميزة واستيعاب مكامن البساطة فيها، تلك الضحكة القادرة على أن تكون معادلاً موازياً سابقا للكلام المنطوق أو خاتماً له حيث يمكنها أن تصل للمشاهد الملتقي فيضحك معه وهذا ما أشار إليه أرسطو في عملية التطهير. ببساطة وسجايا طبيعية ومهارات مستمدة من طريقته المشبعة بعناصر حالة الإبداع الداخلية أو عناصر المزاج بلغة المسرح، حيث أتيحت الفرص لعقله الباطن أن يتحرك فيفيض الإلهام بالتفجر بتمكن في التقديم وارتجال المفردات الشعرية واسترجاع المعلومات بصدق تام وبقدرة فائقة بمخاطبة المتلقي وجذبه لاندماجه بصورة حية من صميم التجارب التي مارسها الرواد ثم استعادة الحياة بكل ما تشتمل عليه تلك المهارات الفنية عن طريق المجموعة المشاركة، وكان اختيار عدد من الشباب الموهوبين لإبراز تلك القضايا التي تظهر التجارب الغنائية وهذا يكمن في مدى الانسجام والتعاضد بين المجموعة والسر قدور بهارمونية ضحكته. يقدم السر البرنامج في قالب سردي كوميدي حكائي متحرر، يتحدث بصورته الخاص وطريقته المختلفة بطابع سردي عبر مواقف مر بها وهو يريد استتباب الواقع والتعبير عنه محتفظاً بالتراث وتقديمه كما هو، حيث يندفع في كثير من الأحيان للتمرد على الشباب الذين يحركهم هو دائماً عبر انضباطية صارمة ليس فيها أدنى مكان للرفض من جانبهم فهو يتملك كل خيوط الدراما فيتحرر الشباب وفقاً لطبيعته التي اختارها أن تعمل داخل الفضاء المحدد لها دون أن تكون لها القدرة على الرفض والاختبار إلا في أضيق الحدود يتحركون حركة آلية بتقديم النماذج يجترون في الماضي ويتلقون في تسليمه له وهو قراءة الغناء في جدله الإبداعي بين زمنين متباينين منطقه في زمن الإبداع السابق بحكم معايشة السر له، فهدفه هو عرضه دون سجن دلالاته في غرف الأمس المعلقة على ذاتها وتذويقه بضحكة السر قدور المشبعة بحلاوة البساطة ومقولاته البهية ومعلوماته المهمة وقفشاته خفيفة الدم. لنهتم بقيمة تاريخنا فكل تطور حقيقي جديد يحمل في هيكله خبرات الإنسان فيكون نموذجاً ينسج على منواله الحاضر والمستقبل. براڤو يا عاصم وأنت تقتحم، والسر قدور خلي الشباب يقولوا رأيهم، فيضحكوا على زمانهم كما ضحكت على زمانك وزمانهم. دامت ضحكتك. ولنا لقاء،،