في مطلع تسعينات القرن الماضي كنا نعمل بمجلة السودان الحر التي أصدرها الرئيس نميري أيام كان منفياً بالقاهرة وكانت أسرة التحرير تضم الأديب الراحل سامي سالم وأنا والصحفي محمد فضل، وكان ممن يكتبون في المجلة المستشار محمد عبدالرحمن، وكان الدينمو والمدير العام هو الواثق عبدالله صالح سكرتير الرئيس نميري وابن خاله. وقد أتاح لنا العمل في المجلة أن نقابل الرئيس نميري كثيراً، سواء في بيته بمصر الجديدة عند تقاطع شارعي العروبة والثورة أو في مكتبه بحي الظاهر وكان كريماً مضيافاً محباً للناس والبلد وقد قرأ كثيراً بعد إبعاده من الحكم في 6 أبريل 1985م وكان متواضعاً طيباً يريد أن يتعلم في كل لحظة وكان مستمعاً ممتازاً من النادر أن يقاطعك وكان يحمل تقديراً كبيراً لأهل المعرفة. ولم تكن تعجبه تعقيدات المثقفين للأمور وسفسفطتهم ونرجسيتهم وقال لي مرة في ليل القاهرة العجيب في عز الونسة ونحن نتناول معه طعام العشاء في بيته: يعجبنى فيك أنك لا تتكلم زي ناس منصور خالد واستنتجنا أن القارئ المثقف الكاتب الكبير الدكتور منصور خالد وكان أحد كبار معاوني الرئيس نميري كان في نقاشاته معه يسرف في استخدام الكلمات والعبارات التي يتداولها كبار المثقفين والأكاديميين في مجالسهم الخاصة ولم يكن ذلك من هموم وشواغل الرئيس نميري فقد كان يهمه ويشغله أكثر من أي شيء آخر المحافظة على وحدة السودان وتنميته وتطويره والارتقاء بحياة شعبه. وقبل ذلك في عام 1988م روى لي عضو مجلس قيادة ثورة مايو الرائد مأمون عوض أبوزيد حكاية ذات مغزى وكان الرائد مأمون يتلقى العلاج بالسلاح الطبي وقد حكم عليه بالسجن مدى الحياة لدوره في تدبير وتنفيذ انقلاب مايو 69 الذي قاده العقيد نميري قال أبو العوض: إنه في بداية ثورة مايو كان ممن يكتبون خطب الرئيس نميري وقد عهد إليه بكتابة خطاب ليلقيه نميرى في مناسبة الاحتفال بتكريمه الذي سوف يقيمه مواطنو ودنوباوي لابنهم الذي أصبح رئيساً للسودان. ولأن الرائد مامون بحكم أمدرمانيته وبحكم نشأته في حي المسالمة كان يعرف ودنوباوي شارعاً شارعاً و«زقاقاً زقاقاً» فإنه حرص على أن يكون الخطاب بسيطاً سهلاً، فأهل الحي العريق في معظمهم من البسطاء وبدأ الاحتفال وكان الرائد مامون في مقدمة الحاضرين وفوجئ بأن الرئيس نميري يلقي خطاباً آخر وكأنه يخاطب صفوة المثقفين بالبلد وكان واضحاً أن المثقفين المدنيين من أمثال الدكتور منصور خالد والدكتور جعفر بخيت وغيرهما كتبوا خطاباً آخر هو الذي ألقاه نميري في الاحتفال. وكان أولئك المثقفون المدنيون يشعرون أنهم بذلك يخدمون الثورة والنظام والرئيس والحقيقة أنهم بالدرجة الأولى كانوا يخدمون مصالحهم ويظهر أن الرئيس نميري مع الأيام أصبح يتضايق من كتابات وأحاديث بعض المثقفين وصارت تعجبه «الكلامات» العادية التي يتداولها الناس العاديون في مجالسهم وتلك التي يتحدثها بعض الكتاب والصحفيين وتشبه «كلامات» الشعب الذي هو من صميمه.