حتى لا أبدو متناقضاً، وكنت قد كتبت منذ فترة قليلة عن «ثمن اللون»، وما كنت أدري الدوافع التي جعلت «شركة بصات الولاية» تعرض فيها «لونها الأخضر الليموني» للبيع في أسواق الدعاية والإعلان، وقد رأيت يومها أن هذه «اللمسة الخضراء» التي أضافتها هذه البصات للولاية، لا تقل قيمة عن فعاليات مشاركاتها في ترحيل جماهير الولاية، وبقدر ما أن الولاية تحتاج لسبل نقل جماهيري مريحة ومكيفة، بقدر ما هي في المقابل أيضاً تحتاج للمسات جمالية، والولاية تدرك قيمة هذه اللمسات الجمالية لدرجة الصعود بها لدرجة المعتمد، إذ إن الولاية عهدت لرجل في قامة وتاريخ العميد يوسف عبدالفتاح أمر «السلوك الحضري»، ولم يكن أيضاً من باب المصادفة أن يحدثني بانفعال وقلق شديدين المهندس فائز عباس، رجل مخطط ولاية الخرطوم الهيكلي، يحدثني بقلق عن «تلوث الذوق العام» للولاية، ارتباك شخصية وهوية الولاية، فالخرطوم عاصمة لها لون لونها يميزها، فكل قادم من مهجر طفق يعبر عن مهاجره التي قدم منها، (فيجلبط) لون مؤسسته باللون الذي تركه وراء ظهره، حتى أن بعضهم لم يكتف باللون بل استقدم اسم المدينة التي قدم منها، فلم يبق لنا من الأسماء الخليجية في عاصمة النيلين إلا الفجيرة وأم القوين، فلكل محلية دوحتها وشارقتها ورياضها وطائفها، وكأننا أمة بلا تاريخ وبلا تراث وبلا ذاكرة. والمهم أنني قد تساءلت في ذلك المقال عن الأسباب التي جعلت الولاية تتنازل عن خضرتها «لعطور العنود» وغيرها من (سلع البايركس)، لم يتبرع أحد بطبيعة الحال بالرد علينا، إلى أن وقعت عيناي أمس الأول على «اعترافات باهظة» قد أدلى بها مدير شركة بص الولاية السيد علي الخضر. والخضر، خضر شركة البصات، يتملك من الجرأة ما يؤهله إلى القول «بأن شركته تستخدم ما يقارب الألفي رجل لتشغيل ثلاثمائة بص، وتتوزع هذه الشغيلة ما بين الورش والقيادة والكماسرة والمفتشين والموظفين، وتفضي هذه المعادلة المرعبة إلى أن مقابل كل بص خمسين رجلاً، وهذا بدوره أفضي إلى تتكبد هذه الشركة خسارات فادحة تقدر في اليوم الواحد بالملايين، فالبص الواحد يسجل خسارة في اليوم تصل إلى مائتي جنيه، وفي الشهر تصل إلى ستة ملايين بالقديم، وإذا ضربت هذا المبلغ في عدد ثلاثمائة بص ستصل إلى الرقم التقريبي في هذه الخسارة، لم تكتف تلك «الورشة» التي تعرضت لمسار هذه التجربة ومستقبلها، لم تستنكف في أن تشير إلى عيوب أخرى في التجربة تتعلق بالأجيال والشركات التي ينتمي لها أسطول بصات الولاية. وربما الأمر يتعلق بعقلية إدارة الشركات العامة، أن يكون مقابل كل بص أكثر من ثلاثين رجلاً، فشركات النقل الجماعي التي يديرها القطاع الخاص تجعل مقابل كل بص رجلين أحدهما سائق والآخر كمساري أو مضيف، على أن تضع مجموعة رجال في مكتب التذاكر ومثلهم في الورشة، لهذا تتكاثر هذه التجارب وتتوالد، أما شركات الحكومة فتجعل لكل بص ورديات عمل، ولكل وردية طاقمها القيادي والضيافي والميكانيكي. ويجدر بنا الإشارة إلى أن ليس العيب كل العيب أن تبتكر «تجربة غير ناضجة»، ولكن العيب كل العيب أن تلجأ إلى «ثقافة الغطغطة» والإمعان في الخسائر، لكن أن يخرج الرجل الخضر، مدير الشركة، وبعلم الخضر الأكبر والي الولاية لنشر حقائق وأرقام هذه التجربة في الهواء الطلق أمام جمع من الصحفيين، والبحث عن إمكانية «مخارج طوارئ» فهذا لعمري لا يخلو من جرأة وشفافية. مخرج.. ولكن الأزمة الأخرى هي إذا أرادت الولاية أن تتخلص من ألفي عامل بهذه الشركة، ساعتها سنخرج نحن في وسائل الإعلام نحدث الولاية عن «ثقافة التشريد» المرفوضة مطلقاً على أن الولاية «تذبح العجل وتكسر الجرة»!