كيف يمكن مثلاً أن تحدث نهضة زراعية بشقيها النباتي والحيواني، وأهل الولايات الذين يشكلون القوة البشرية الأساس في ترجمة هذه النهضة على أرض الواقع، إلا أن سيل هجرتهم إلى العاصمة القومية يتدفق بلا القطاع حتى أصبحوا يشكلون غالب قاطنيها؟ هذه القوة البشرية لا تخطؤها العين المبصرة في كل مكان.. في المناطق السكنية التي تتمدد كل يوم والدولة تبشرنا بمزيد من الخطط الإسكانية الجديدة! حدث ولا حرج عن الكثافة غير العادية على ساحات العمل غير المنظم، والأسواق والمواصلات والمدارس والمستشفيات والطرقات وطلاب وطالبات الكليات والجامعات، والمطاعم والكافتيريات والحدائق العامة التي يطلق عليها (حبيبي مفلس) وما تكتظ به إلى آخر المشهد المخيف.. وهو أمر لو سار على هذا المنوال دون علاج فلا شك أن هذه العاصمة سوف تغدو كارثة حقيقية مهما بذلت الدولة من جهود لتوفير مزيد من الخدمات من صحية وتعليمية ومياه وكهرباء وطرق وكباري «مع تدفق سيل الوافدين الأجانب بصورة غير مسبوقة». وفي تفسير هذا الواقع الجديد في العاصمة القومية يمكن أن يقال إن هناك من يكسبون من ذلك كالمتجارين في مواد البناء والتشييد، وأصحاب أساطيل وسائل المواصلات، ومستوردي البضائع التي تغمر السوق، الآن، ومستخدمي العمالة الرخيصة، سواء كانت محلية أو أجنبية.. إلخ. وكل ذلك وغيره جعل الهجرة إلى العاصمة القومية «أفضل» من البقاء في الولايات في سبيل ما يقيم الأود، ومن النتائج الخطيرة المترتبة على ذلك إفراغ الولايات من قوتها البشرية العاملة في مجال الزراعة والثروة الحيوانية. ومما فاقم ويفاقم من إشكاليات العاصمة القومية من جهة، وإفراغ الولايات من قوتها البشرية العاملة من الجهة الأخرى، هو قضية هذا العدد الكبير من طالبات الولايات اللواتي تكتظ بهن كليات وجامعات العاصمة القومية.. وهي القضية الخطيرة التي تناولها بجرأة وبموضوعية رئيس تحرير «الأهرام اليوم»؛ الأستاذ الهندي عز الدين، في حملة من عدة حلقات، ومما جاء في هذه الحملة ما يلي بالحرف وبحسب تعبيره: { ما هو الغرض من إنشاء جامعات وكليات في ولايات السودان ال(15)؟ لماذا لم تكتف الدولة بالجامعات والكليات الموجودة وإضافة أخرى في العاصمة القومية؟ { لا شك أن الهدف المفترض لإنشاء جامعات وكليات بالولايات هو المساهمة في خدمة المجتمع «المحلي» وتنميته وتطويره في كافة المجالات التعليمية والصحية والاقتصاية والاجتماعية؟ { فوجود «كلية طب» بجامعة سنار مثلاً يعني خدمة المستشفيات والمراكز الصحية بولاية سنار من خلال تدريب وعمل طلاب الطب وأطباء الامتياز بتلك المؤسسات العلاجية. { وإنشاء كلية تربية ب(الحصاحيصا) بغرض أن يساعد في دعم المدارس والعملية التعليمية والتربوية بالمنطقة وضواحيها. { أما إذا كان الهدف هو افتتاح منشآت ترافقها «مباني» صندوق رعاية الطلاب أو ما تسمى ب«المدن الجامعية السكنية» فإن «النزيف» الأخلاقي والاجتماعي وفاقد التحصيل الأكاديمي الذي يجعل الجامعات تدفع ب«أنصاف متعلمين» مهدداً بحريق شامل ل«الأخضر واليابس». { ما الداعي إلى إهدار مئات المليارات من الجنيهات على إنشاء «داخليات» في الخرطوموالولايات باسم صندوق رعاية الطلاب إذا فرضنا على إدارة التعليم وأولياء الأمور قبول طلاب «وطالبات» ولاية «كسلا في جامعة كسلا» والخيار الثاني جامعة «القضارف» والعكس. { طلاب البحر الأحمر يدرسون في جامعة البحر الأحمر، طلاب الولاية الشمالية يدرسون في جامعة دنقلا، وطلاب الفاشر يدرسون في جامعة الفاشر وكذلك طلاب نيالا وزالنجي والأبيض ومدني.. و.. { انتهت «عقدة جامعة الخرطوم» إلى غير رجعة، وقبلها انتهت عقدة مدارس الخرطوم التي تخرج «الأوائل»، فأول الشهادة السودانية للعام الفائت جاء من مدرسة حكومية في ولاية كسلا الطرفية الفقيرة. { قبل أشهر قصدت إحدى المستشفيات «الخاصة» بالخرطوم شاكياً من عرض في ساعة متأخرة من الليل فلفت انتباهي همة ودقة وفطنة الطبيبة المناوبة في تلك الليلة «نائبة اختصاصي»، وكعادتي أدرت معها حواراً استكشف بها معلومات لفائدتي عن مشاكل الجهاز الهضمي.. وأول ملاحظة خرجت بها أن روشتة «النائبة» حوت عقاراً لم أجربه من قبل لم ينصحني به أطباء «مصر» و«سوريا» و«لندن»، سألتها هل تخرجت في طب الخرطوم أم طب الجزيرة باعتبارهما الكليتين الأشهر والأعلى في التصنيف الأكاديمي على الأقل من واقع نتائج القبول لكليات الطب في بلادنا، فكانت المفاجآت أن ردت عليّ قائلة: «أنا خريجة طب الأبيض». { سألت صيدلاني عن «العقار» الموصوف بالروشتة فقال إنه نوع متطور من فصيلة (الليبراكس) ولكن الكثير من الأطباء لا يعرفونه. { انتهت عقدة جامعة الخرطوم فلماذا تأتي (بنات) «الأبيض» ليدرسن في الخرطوم، ويسكن في داخليات علي عبدالفتاح أو (البركس) أو غيرها والطب هو الطب.. والهندسة هي الهندسة.. والكيمياء هي الكيمياء وأول السودان جاء من مدرسة متواضعة في مدينة كسلا متفوقاً على المرفهين في مدارس الخرطوم «الخاصة» و«العالمية». في ختام هذه الزاوية ليس لدي ما أقوله غير سؤال واحد: هل يقرأ المسؤولون مثل هذه القضايا؟