عندما قامت ثورة الإنقاذ الوطني في العام 1989 جمعت حولها كماً هائلاً من المبدعين في شتى ضروب الإبداع وانتجوا لها ما عُرف من بعد بالأدب الجهادي وعبر كلماته وموسيقاه تمكنت من تجييش الشعب السوداني بالدفاع الشعبي الذي قادت به أشرس معاركها مع الجنوبيين الذين أصبحوا دولة الآن وأبرزها معارك صيف العبور، والميل أربعي،ن وخور إنجليز، وتوريت، وبور وغيرها، وكان الحداة من المبدعين يجدون التقدير داخل ميادين التدريب وفي المدن المحرَّرة وبين كل المقاتلين باعتبارهم جذوة الحماس التي تقي النفس لحظات الخوف أو العودة إلى الوراء فسطع نجم قيقم ، شنان ، محمد عبدالحليم ، محمد عبدالسلام ومن العسكريين العقيد إبراهيم البشير، المقدم فتح الرحمن الجعلي والرائد الشهيد وداعة الله إبراهيم في رائعته : يلا يا صيف العبور يلا يا مسك الختام حرِّك الغضب اللي نام خلي عازة تعود عروس زاهية في مسك الختام بالإضافة للعديد من الإعلاميين بمؤسسة الفداء التي كانت تنتج برنامج في ساحات الفداء للتلفزيون القومي ولم تكن هناك قناة فضائية خلافه أصلاً في ذلك الوقت، فلمع نجم الأساتذة إسحق أحمد فضل الله ، عوض جادين محي الدين، النورالكارس، فضل الله أحمد عبدالله ورفاقهم وجميعهم تابعوا عمليات القوات المسلحة والدفاع الشعبي على الهواء مباشرة وظلوا يرصدونها بالكاميرا والقلم ليعدوا البرنامج الأسبوعي الذي كان يحرص كل أهل السودان على مشاهدته وباقي مشاهدي العالم، قبل أن تُعرف قناة الجزيرة السالبة للألباب اليوم. ولكن الإنقاذ مع تغيير جلدها المستمر بداية بقرارات الرابع من رمضان الشهيرة التي ترجَّل بعدها الشيخ الدكتور الترابي من قطار الحكم الإسلامي في السودان وهام على وجهه معارضاً شرساً، وسجيناً مقيداً، مروراً بحكومة الوحدة الوطنية بمشاركة بعض الأحزاب المنشقة عن أصولها نهاية ببوادر الجمهورية الثانية التي حملت تباشير انفراد الشباب بقيادة البلاد بحساب حكومة الدكتور عبدالرحمن أحمد الخضر والي الخرطوم التي أعلنها مؤخراً، فإن الإنقاذ برغم حفاظها على كادرها السياسي الذي نجا من استمالة الشق المخضرم من الإسلاميين بجناح الترابي، إلا أنها أهملت كل الذين تغنوا باسمها وهي في السنة الأولى (حكم وسياسة) فتفرّقت بهم السبل وهاموا على وجوههم في أصقاع الأرض، وتركوا أدب الجهاد وأصبحوا يجاهدون للحصول على رغيف الخبز. والآن.. بعد أن تجمعت حركات دار فور في وعاء واحد أسمته (الجبهة الثورية) وحتى والي النيل الأزرق المطرود مالك عقار بدأ في غزلها لتحتويه هو ومقاتيليه علَّه يشفي غليله. وبحسب الحكومة فإن رئيس دولة الجنوب هو من يموِّل هذه الجبهة لكي يفك الطوق عن عنقه، وفي ظل هذا الجو المنذر بحرب إقليمية أو مجابهة تمرد قوي من الغرب والجنوب (النيل الأزرق)، فإن الإنقاذ تجلس الآن بلا حُداة ولا مبدعين ولا أدري إن دعا داعي الفداء فهل سيلبون النداء، أم أن مرارات الماضي مازالت غصة في حلوقهم؟ ، فقد كانوا ملوكاً تحت دوي الانتصارات الباهرة وكانت الإذاعة والتلفزيون حصراً لهم لأكثر من أربعة عشر عاماً ثم كان الفطام المر، حتى أغنياتهم وأناشيدهم ما عادت تُبث ولم نعد نسمع (أمة الأمجاد حقيقة علَّمت معنى الرجالة ... فيها أحفاد النجومي فيها أبوقرجة البسالة) وعدنا نطرب ب(توكلنا على الله .. الله أكبر في إيدنا رشاش في إيدنا خنجر) فقد طلَّقت الإنقاذ مبدعيها الجهاديين إلى غير رجعة، وما درت أن الأيام دول وأن السياسة لعبة قذرة لا ثابت فيها حتى وإن تنازلت عن ثلث مساحة السودان، فها هم الجنوبيون قادمون بالوكالة عبر حركات دارفور التي حار دليلها وأجهد الليل خليلها، وما عرفت أن الله واحد ولن تنفعها عباءة عبدالواحد وأن العودة إلى الخرطوم ممكنة عبر الرعي والتقاوي لا عبر بدلة أركو مناوي . وأقول إن الحكومات القوية والبعيدة النظر تحتفظ بمبدعيها حتى الرمق الأخير، فإن المطرب محمد حسن ظل يتغنى للطاغية الراحل القذافي حتى مقتله ب(عظيم الشأن) وأبيات محمد مفتاح الفيتوري (امضي أنت ورفاقك للقرن الثلاثين) فإن الإبداع هو ترياق المقاتل في لحظة اليأس وانعدام الوزن. فقد قال لي أحد جنودنا البواسل وكان يعمل تحت امرة اللواء الركن أبوقرون عبدالله أبوقرون إبان حكومة الصادق المهدي بمنطقة بحرالغزال العسكرية بأن موقعاً للقوات المسلحة بات محاصراً من قِبل قوات قرنق فأمره القائد بأن يرسل إشارة إلى أبوقرون فحواها (نفدت ذخيرتنا سننسحب) .. فجاء رد اللواء أبوقرون الذي لا يملك شيئاً يمدهم به تلك اللحظة (حليلم أخوان البنات العلّموا الجبل الثبات)! وأردف محدثي لقد كانت الإشارة قوية جداً فقد صمدنا بها لأسبوعين كاملين حتي جاءنا المدد وفككنا الحصار ودحرنا العدو تماماً.