استوقف اسمها الناس كثيراً عقابيل الإعلان عن التشكيلة الوزارية لحكومة ولاية (الخرطوم)، حيث رأى البعض أن اختيار امرأة للولاية على المال في هذه الظروف يعني ثقة كبرى أولتها إياها القيادة، وهي ثقة يندر أن يجود بها أهل (ساس – يسوس) في دولنا (العالمثالثوية)، تماماً كما يعني الاختيار للمنصب تميُّز وجدارة الموكل إليه في مجال تخصصه، وهو الوصف اللائق بها.. فدقتها وانضباطها في العمل ظلت تسبق سيرتها على الدوام، وكانت أكثر ما يلفت نظر المحيطين بها. هذه المعطيات دفعتنا في (الأهرام اليوم) إلى البحث عن منزلها وتسجيل زيارة مسائية لها للتعرف عليها بين أفراد أسرتها، بعيداً عن الدفاتر والأرقام، و... (من غير ميعاد) كانت هذه الجلسة..!! ليلى عمر بشير؛ المتسنّمة لسدّة مالية الخرطوم توّها، استقبلتنا برحابة صدر.. في مقدمة مستقبلينا كذلك كان زوجها مكي سنادة، وقضينا أكثر من ساعة بين أفراد أسرتها.. جلسة سادها جو من المرح وخفة الظل وغلبت عليها روح الفن والإبداع. { (ليلى) نشأت في الخرطوم، كما عرفنا منها.. تلقت معارفها الأولية من مدرسة (العزبة) ببحري، والثانوي العام بالخرطوم الوسطى وجلست للشهادة من مدرسة الخرطوم الثانوية، قبل أن تلتحق بكلية الاقتصاد في جامعة الخرطوم.. حيث هيأت لها الأقدار أن تكون زوجة إبان تلقيها دراساتها الجامعية. { حينما سألناها عن كيف التقت مكي قالت: اللقاء تم بمحض الصدفة، حيث ذهبت مع إخوتي إلى حديقة الحيوان، التي كانت تتبع لوكالة الثروة، وكان عمي موظفاً بالثروة الحيوانية.. عادة ما نذهب معه لحضور الاحتفالات التي تقام في الأعياد - تقول ليلى - وحينها مكي سنادة كان موجوداً في الحديقة، وإخواني عندما رأوه أسرعوا نحوه لتحيّته، سيّما أن شهرته بدأت في الاتساع، فدار بينهم حديث انتهى باستضافتهم من قبل مكي لتناول بعض المشروبات فأخذ منهم تلفون (المنزل) وبعدها اتصل بالوالد وأشاد بروح الأسرة وعبّر عن ارتياحه لها، وبالمقابل قام والدي بتقديم دعوة لأستاذ مكي. { ليلى تؤكّد بأن ارتباطها بمكي كان سابقاً لهذا اللقاء، فمنذ أن استمعت له عبر الإذاعة ظلت مشدودة لهذا الصوت الجاذب، وآنذاك لم تكن تعرفه.. وبعد ظهوره في التلفزيون ارتبط الصوت بالصورة، مضيفةً بأنّ لقاء مكي لها بالحديقة كان مدخلاً له لصحبة إخوانها وأخواتها، ومن بعد ذلك محاولة زيارته لهم في المنزل. { هنا سألنا كذلك مكي عن كيفية تبلور فكرة الزواج؟ فأجابنا بأن خفة ظل ليلى وإخوانها الصغار جذبه نحوها بجانب شكلها، وعندما اتّصلت بوالدها وجدته رجلاً ليبرالياً رحب بي، واستمرت العلاقة حتى توجت بالزواج، وكنت آنذاك أشغل منصب نائب مدير المسرح القومي ومعروف جداً. { الوزيرة لا تنسى أن والدتها تحديداً كانت معترضة على هذه الزيجة، لأنه رجل غريب عن الأسرة وينتمي للوسط الفني، وذكرت ليلى إن والدتها توفيت قبل زواجها، وقبل أن يتم الزواج كان هناك اعتراض من قبل الأسرة بحجة أنه يعمل في مجال التمثيل لكن إصرار والدها دعاهم للمضي قدماً في الموضوع.. وأشارت إلى أن مكي تحمل في بداية حياتهم مسؤولية كبيرة لأنها كانت الابنة الكبيرة في الأسرة ومسؤولة عن إخوانها وكان بالنسبة لهم (أخو كبير) وصديق، وبيته كان ملاذاً لإخوانها الذين تربوا على يده كما ذكرت، وتمضي محدثتنا إلى أنه على مستواها الشخصي أحدث مكي تحولاً كبيراً في حياتها بتعزيز الثقة في نفسها ومساندتها في تربية إخوانها والخروج بهم من هذه المرحلة. { بدوره يقول سنادة أن وجود ليلى في حياته جعله يحدّد شكله واتجاهاته في العمل، محاولاً حسب ما قال قدر الإمكان أن يكون عند حسن ظن أسرتها، ويضيف: "الله أكرمني بأسرة لن أبدلها أبداً.. هي نتاج لمجهوداتنا التي بذلنا فيها جهداً كبيراً". { ليلى حدثتنا عن أن أسرتها تتكون من أربع بنات وولد، فتدخل الابن قائلاً يجب أن تكون البداية بالأولاد.. «وضحكوا جميعهم». وتواصل الوزيرة: عزّة مكي سنادة هي الابنة الكبيرة وتخرجت من جامعة الجزيرة كلية الزراعة متزوجة والآن بجدة، وعبير تخرجت من هندسة الخرطوم قسم الكهرباء متزوجة وتعمل بدولة قطر، إمامة تخرجت من اقتصاد جامعة الخرطوم متزوجة وتعمل ببنك السودان، ومحمد علاء الدين ابني الوحيد يعمل ببنك السودان وتخرج من معهد المصارف، وإيمان تخرجت من جامعة الخرطوم كلية العلوم الرياضية وهي الابنة الصغرى والآن عاطلة عن العمل. وهنا تدخلت إيمان لتقول إنها ليست عاطلة فهي تعمل (طباخة للوزيرة) بحكم وجودها في المنزل. { وزيرة مالية ولاية الخرطوم بعد تخرجها من اقتصاد جامعة الخرطوم عملت لمدة (6) أشهر بالسوق الحر عام 1975م، كمدير إداري للمشتريات، ثم دعتها ظروفها الأسرية للانقطاع عن العمل من 1975م إلى 1979م، وعادت بعدها إلى العمل بالتخطيط، وعندما تم حل التخطيط انتقلت للعمل بالمالية وكانت أوّل امرأة تتقلد منصب مدير إدارة المصروفات، ووفقاً لحديثها كان بإدارتها آنذاك (6) رجال ، و(54) امرأة، ولهذا السبب كانت تطلق عليها (عنبر المجنونات)..!! { ليلى تمضي في الحكي: في تلك الفترة استطعنا إنجاز عمل كبير ووزارة المالية كانت تحت إدارة الوزير الأسبق عبد الوهاب عثمان وأهم ما يميز تلك المرحلة أنها كانت مشوبة بالتحديات، رغم ذلك تميزت بروح العمل الجماعي.. وتضيف أنها عندما كانت في التخطيط كان السودان منفتحاً في علاقاته مع العالم ومنظماته، لكن عند انتقالها إلى المالية وجدتها في أسوأ أوقاتها، فالتضخم كان (130%) والعملة المحلية متدهورة والبنك الدولي كان قد اقترب من فصل السودان عن المنظومة الدولية والوضع الاقتصادي كان حرجاً، لكن رغم ذلك استطاع الناس تقديم عمل أضاف إليهم كثيراً من الخبرات.. عملت بها - كما تواصل ليلى - حتى سنة 2000، ورغم أنني خرجت منها « بارتفاع في ضغط الدم » لكن اكتسبت خبرات وبنيت علاقات إنسانية متميزة. { بعدها - والحديث ما زال للوزيرة - انتقلت إلى العمل بإدارة المصروفات (الإدارة العامة للمؤسسات والهيئات الحكومية بالمالية) وفي هذه الفترة تم إدخال نظام الحوسبة في الخدمات المقدمة من وزارة الداخلية للجمهور.. قمنا حينها بستة مشروعات في المالية لكنها توقفت لأن تمويلها كان أكبر من قدرات الدولة حسب ما قيل لنا، والفريق عبد الرحيم محمد حسين كان آنذاك وزيراً للداخلية وطلب مني مساعدته في هذا المشروع والعمل وصل مراحل متقدمة، لكن شاء الله ألا يكتمل فعدت إلى المالية مرة أخرى، وعملت كمدير لإدارة التعاون الدولي ثم مدير لإدارة السياسات والبرامج الاقتصادية إلى أن انتقلت إلى بنك السودان للعمل في إدارة الدين الخارجي لمدة (3) سنوات وفي نهايتها جيء بدكتور محمد خير الزبير خلفاً لدكتور صابر محمد الحسن، وكانت هناك شركة مشتركة بين البنك الدولي وبنك السودان، وعرض عليّ د. محمد خير العمل في إدارة هذه الشركة وبالفعل وافقت وطلبت إجازة لمدة شهر على أن أتسلم العمل عقب عيد الأضحى. { مكي سنادة تدخّل عند هذه النقطة بالقول: قبل أن تبدأ العمل فيها (الفأس وقع في الرأس) وتضحك ليلى مؤمنة على كلام زوجها. { من رشح ليلى عمر لوزارة المالية ولاية الخرطوم؟! سؤال طرحناه في محور جديد من هذه الونسة، تقول ليلى بصدده ل(الأهرام اليوم) إن الترشيح جاء من الولاية ولم تستشر لهذا المنصب لأنها كانت خارج السودان وكانت المرّة الأولى التي تغلق فيها هاتفها.. "ربما كان لحكمة" كما استرسلت في وصف المسألة..!! ومضت بالقول: تم ابلاغي يوم الاثنين وتم إعلان حكومة ولاية الخرطوم يوم الثلاثاء، وطلبت من د. مندور المهدي استشارة زوجي مكي سنادة فطلب مني أن أعطيه مكي عبر الهاتف وبعدها قال لي (عندك ساعتين) وسيتصل عليك السيد والي الخرطوم..!! { الوزيرة تؤكّد أن المسألة كانت صعبة بالنسبة لها، خاصة أنّها لا علاقة لها بالسياسة ولم تكن يوماً في دائرة اهتماماتها، لكن أقرّت بأنها كانت تربطها صلة ببعض القيادات المسؤولة مثل د. مندور المهدي الذي عملت معه، وقبل سفرها الأخير إلى قطر التقت به في اجتماع، فهي عضو مجلس إدارة في بنك الادخار ومندور رئيس المجلس.. وبحكم ذلك تلتقي معه كل أسبوع في اجتماع راتب.. والي الخرطوم أيضاً تربطها به علاقة قديمة حيث أن عملها بوزارة المالية أتاح لها فرصة التعرف على رجال السياسة باعتبار عملهم في العمل العام وصلتهم بوزارة المالية، معزّزة بالقول: أنا كنت أعمل في مكان «قروش البلد كلها بتطلع من تحت يدي». { اختيارها كوزيرة كما تقول وجد رفضاً تاماً في البداية من أبنائها وإخوانها، أما زوجها فلم يقبل الفكرة ولم يرفضها. وعندما توجهنا إليه بالسؤال عن حالة (البين بين) التي انتابته أكد أن خوفه لم يكن على قدراتها لأداء المهمة ودخولها معترك العمل العام، وإنما كان على دخولها في ظروف استثنائية لبلد تتعرض لضغوط شديدة، لكن نداء الواجب الوطني دعاه لعدم التردد في تشجيعها. { ليلى ثنّت حديث سنادة وقالت: انفصال الجنوب وتأثيره أكبر على وزارة المالية الاتحاية لكن تداعياته ستكون كبيرة على مسار الاقتصاد، والخرطوم ولاية مرتبطة بالمواطن وهمومه، وضيق الناس من ارتفاع الأسعار ومستوى الخدمات مرتبط بقدرات المالية، والعاصمة بها ضغوط شديدة بسبب عملية الزحف السكاني، ولهذا السبب معدل نمو الولاية عالي جداً. { ولأنه (يموت الزمار وصوابعه بتلعب) كما جرت بذلك أمثولة من شمال الوادي، وجدت حدسي يذهب بي لمنحىً آخر بعيداً عن محاور (الونسة) العائلية، دفعني فضولي الصحفي والزمن يمضي بنا لاستنطاقها حول (العام) بعد أن كان (الخاص) هو سيد الموقف طوال هذه المقابلة، طلبت من ليلى أن تكشف عن خطتها لإدارة مالية الولاية في مقبل وزارتها فأوضحت أنها قبل أداء القسم سمعت الرئيس يتحدث عن ضرورة الانضباط المالي بالولاية، لذلك ستبدأ بتوجيه الرئيس لإحداث انضباط مالي بجانب العمل على خدمة المواطنين في إطار القانون وتوفير الخدمات على حسب مقدرة المواطن المالية.ثم دفعنا بسؤال آخر عن ما هو هاجس الوزيرة فقالت: هاجسي هو القسم الذي أديته وأنا عملت منذ 1975م وأخلصت لكن لم أقسم قبل ذلك. { حسناً.. خواتيم اللقاء وقت مناسب للتكفير عن خطيئة الزجّ ب(العام) وسط (الخاص).. أظن السؤال حول طريقة إدارة البيت يصلح كوداع في هذه الليلة وأنا أهيئ نفسي لمغادرة منزلهم العامر.. هكذا حدثت نفسي قبل أن ألقي تساؤلي: الصرامة المالية سيدة الموقف يا ترى في البيت.. أم أن نكهة الفن والإبداع هي الطاغية؟ فردت ليلى بسرعة قائلة: أبداً أنا بخلي المالية في المكتب والمال في البيت يديره مكي سنادة. فقاطعها مكي: نحن عندنا فوضى مالية في البيت. قاطعته بالقول: ليلى ستخطف منك الأضواء يا أستاذ، فرد: الأضواء توارت منا خاصة أننا بلغنا من العمر.. ما بلغنا.. وحنتقاصر عشان تطول هي.