دعوة المؤتمر الوطني لتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة، هي السبب المباشر الذي قاد إلى تأجيل إعلان الحكومة الجديدة لأكثر من أربعة أشهر. لقد جاءت هذه الدعوة بعد إعلان انفصال الجنوب مباشرة وبعد مناداة المؤتمر الوطني بالجمهورية الثانية. السؤال هنا لماذا جاءت هذه الدعوة في هذا التوقيت بالضبط؟ وهل هذا التوقيت مناسب فعلاً لهذه الدعوة؟ تقديري إن هذا التوقيت غير مناسب لأنه قد جاء بعد أسوأ شراكة سياسية في الحكم تشهدها البلاد حيث كانت نتيجتها المباشرة هي انشطار السودان. كذلك لقد جاءت هذه الدعوة بعد انتخابات أبريل 2010م التي قاطعتها معظم الأحزاب السياسية الوطنية وخاضها المؤتمر الوطني منفرداً مع شريكته الحركة الشعبية التي كانت تنظر لهذه الانتخابات على أساس أنها من مطلوبات إجراء عملية الاستفتاء حيث أن اتفاقية السلام الشامل قد نصت على أن يتم إجراء الاستفتاء بواسطة حكومة منتخبة حتى يتحقق الانفصال في ظل حكومة وطنية تُحظى بتفويض وإرادة شعبية واسعة. الدعوة لتشكيل الحكومة ذات القاعدة العريضة جاءت كذلك بعد السيطرة التامة للمؤتمر الوطني على السلطة التشريعية والتنفيذية وهذا يعني أن المشاركة تعتبر «منحة» منه للأحزاب السياسية!! لا أدري ما هي الأسس والمعايير التي ستقوم عليها هذه الشراكة؟ هل تتم على أساس الأوزان السياسية التي جاءت بها انتخابات 1986م، أم انتخابات أبريل 2010م، أم الانتخابات التي شهدتها فترة الستينيات؟. مقاطعة الأحزاب لدعوة الحكومة للمشاركة في الحكومة ذات القاعدة العريضة تشبه تماماً مقاطعتها لانتخابات أبريل 2010م حيث شاركت بعض الوجوه السياسية من أحزاب المعارضة في تلك الانتخابات. والآن يتكرر نفس السيناريو عن طريق المشاركة الفردية في الحكومة ذات القاعدة العريضة. الجدير بالذكر أن هذه الوجوه السياسية التي شاركت في حكومة الوحدة الوطنية لم تُضف جديداً للممارسة السياسية حيث أصبحت هذه الوجوه السياسية موالية تماماً لسياسات المؤتمر الوطني. لقد قاد ذلك أحزاب المعارضة لاتهام المؤتمر الوطني بأنه يسعى إلى تشظيها وشرذمتها وشق صفوفها. والآن يتكرر نفس السيناريو بدعوته للمشاركة!! هذا يؤكد أن لأحزاب المعارضة أجندتها الخاصة التي تسعى لتحقيقها من هذه المقاطعة، كما أن للمؤتمر الوطني أيضاً أجندته الخاصة التي يسعى لتحقيقها من خلال دعوته للمشاركة في الحكومة ذات القاعدة العريضة. لا شك أن الاجماع الوطني لا يمكن له أن يتحقق عبر المكايدات السياسية وانعدام الثقة والشكوك المتبادلة في نوايا الأطراف المختلفة. إن كانت النوايا صادقة حقاً فإن الاجماع الوطني المنشود كان يمكن تحقيقه بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل مباشرة حيث أن أحزاب المعارضة هي التي كانت تدعو للمشاركة في الحكم خلال تلك الفترة. ولكن المؤتمر الوطني تكبَّر وتجبَّر ورفض هذه المشاركة ظناً منه أنه قد حقق كسباً سياسياً يمكِّنه من الإنفراد بالسلطة بالبلاد إلى الأبد مفضلاً بذلك مصالحه الحزبية الضيقة على المصالح الوطنية العليا للبلاد. هكذا أضاع المؤتمر الوطني الفرصة التاريخية لتحقيق المشاركة والآن بعد أن «طارت السكرة جاءت الفكرة» ولكن بعد ضياع الفرصة التاريخية وفوات أوانها!! خلال تلك الفترة التي أعقبت توقيع اتفاقية السلام كان الكل مهيأً للمشاركة عدا شريكي نيفاشا!! تصريحات الشريكين الجديدين لا تبشر بخير وهي مؤشر قوي على أن المؤتمر الوطني مقبل على شراكة أسوأ من شراكته السابقة مع الحركة الشعبية حيث أن تصريحات المتنفذين بالاتحادي الديمقراطي قد كررت تصريحات باقان أموم وعرمان حرفياً ، حيث تم التهديد بالانسحاب من الحكومة في حالة عدم تنفيذ برنامج المشاركة وهذا تكرار لسيناريو الحركة الشعبية التي قامت بسحب وزرائها من المشاركة في اجتماعات مجلس الوزراء. أشارت تلك التصريحات أيضاً إلى أن المشاركة سوف لن تكون ديكورية وصورية وشكلية ولكنها ستكون مشاركة فعلية وهذا يعني أن الحزب الاتحادي الديمقراطي سيكرر تجربة حليفه الإستراتيجي الذي جعل المؤتمر الوطني يرى (النجوم في عزّ النهار)!! حيث شكَّلت الحركة الشعبية معارضة قوية للحكومة التي شاركت فيها. هذا الأسلوب الذي انتهجه الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يحمل روح التحدي والندية لا يساعد على الانسجام والتجانس بين العناصر المكوِّنة للحكومة الجديدة، وهذا يؤكد بأن السودان سوف لن يجني خيراً من هذه الشراكة الجديدة التي بدأت متعثرة حيث أن الأطراف الرافضة لهذه المشاركة من كل الأحزاب سوف تعمل على إجهاضها هذا بالإضافة إلى أن هذه المشاركة ستقود إلى المزيد من الانشقاقات الجديدة في صفوف الأحزاب التي ستظهر على السطح كرد فعل سريع لهذه المشاركة التي لا تجد إجماعاً قومياً عليها. التهديدات بالاستقالة تؤكد صحة هذا الإدعاء. الواقع السياسي الحالي لا يشجع على نجاح هذه المشاركة الجديدة حيث أن معظم الأحزاب السياسية قد قاطعتها نكاية في المؤتمر الوطني الذي رفض مشاركتها في الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام الشامل. الخوف كل الخوف أن تستغل أحزاب المعارضة هذه الشراكة بأن تقودها كراهيتها للمؤتمر الوطني إلى تصوير هذه الشراكة على أساس أنها تأتي كترياق مضاد للجبهة الثورية السودانية التي قامت على أسس عنصرية وإذا ما تم ذلك لا قدَّر الله فإن السودان سيشهد انشقاقاً جديداً في نسيجه الداخلي مثل ذلك الانشقاق الذي سبق أن استغلته القوى الأجنبية لإذكاء نيران الحرب الأهلية بجنوب البلاد. إن حرب التصريحات النارية التي أطلق شرارتها (باقانات وعرمانات) الاتحادي الديمقراطي ستعجِّل بفشل هذه الشراكة الوليدة التي سوف لا يطول شهر عسلها كثيراً لأنها لا تقوم على أسس متينة أو إيمان راسخ. النتيجة المتوقعة لهذه الشراكة الجديدة هي تأزيم الموقف السياسي الداخلي بزيادة حالة الاحتقان السياسي وإحداث شرخ في الجبهة الداخلية بدلاً عن توحيدها. كذلك ربما تلجأ المعارضة إلى دعم حركات التمرد لتصعيد نشاطها العسكري وربما تلجأ أيضاً إلى إحياء تجمع أحزاب جوبا والاتصال بالمجتمع الدولي لممارسة المزيد من الضغوط السياسية والعسكرية على الحكومة الجديدة. واضح أن المؤتمر الوطني لم يقرأ جيداً الدروس المستفادة من تجربة شراكته مع الحركة الشعبية لأن تكرار التجارب الفاشلة سيقود إلى المزيد من الضعف والعجز حيث أن المؤتمر الوطني قد بدا متلهفاً على هذه المشاركة بعد أن كان يرفضها سابقاً وهذا مؤشر قوي على أنه قد بدأ يستشعر خطورة العزلة السياسية الدولية المفروضة عليه. هذه ليست نظرة تشاؤمية ولكنها قراءة تحليلية لحقائق ووقائع معاشة وملموسة يدركها الجميع. ختاماً كان من الأفضل للمؤتمر الوطني أن يدعو إلى انتخابات مبكرة حتى تكون شراكته الجديدة في الحكم مبنية على أسس ومعايير مُرضية لكل الأطراف وليست «منحة إكرامية» منه لأن الإكراميات ستقود إلى مشاركة صورية وشكلية وديكورية حيث أن العين لا يمكن لها أن تعلو على الحاجب وهذا ما يرفضه الاتحادي الديمقراطية جملة وتفصيلاً!! وبالله التوفيق،، فريق أول ركن/ زمالة كلية الدفاع الوطني - أكاديمية نميري العسكرية العليا