إن معظم لغات البشر تحوي في قاموسها كلمات تعبر عن الوحدة والعزلة والتأمل والاستبطان والتفكير العقلي والأمان والضمير والوعي الفردي وبالرغم من أن الإنسان قد أصبح مجرد ظاهرة خارجية فإن الغالبية العظمى تهتم بتحصين نفسها ضد ضربات العالم الخارجي، فكثيراً ما نجد أنفسنا من حيث ندري أو لا ندري مضطرين لأن نتعايش مع بيئتنا لأننا لا نستطيع قطع جسور ما ورائنا وهنالك من قد يؤثر الاحتماء بقوقعته الآمنة لكي لا يتعرض لأعاصير المجتمع فهذا يكتسب طابع التحفظ والتباعد عن المخاطر واحترام الجسد والذات. عادة البطان (الدراما الدموية) تعتبر إرثاً ثقافياً اجتماعياً وهي عادة قديمة عند قبيلة الجعليين في السودان وتمتد من منطقة الجيلي وحتى الدامر بشرق نهر النيل وغربه.. قبائل يميلون إلى الغناء (التم تم) وإيقاع (السيرة بالدلوكة) وهو القفز إلى أعلى (العرضة) باستخدام العصا والحربة والسوط (الحنسيت). والبطان هي ممارسة تعبر عن الرجولة مسرحها بيوت الأعراس وهي عبارة عن جلد أو ضرب الرجل بالسياط في ظهره العاري أمام المجموعة وهي ممارسة شبابية لإظهار القوة والتحمل. من قبل يقول محمد أحمد عبدالرحمن إن البطان كمفهوم من ناحية لغوية تعني (العصبية) التي تحدث عنها عالم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون في نظريته الدائرية عن نشوء الدولة واضمحلالها وأنها تستخدم لدى بعض القبائل السودانية والعشائر العربية مثل الجعليين والمجاذيب ودار حامد وقبائل (الأبالة) وتحمل مضامين الشجاعة والفروسية وتحمل الصعاب لحماية العرض والشرف وتؤكد رجولة الجنس الذكوري وهي تقتصر على البالغين فقط. في منتدى خاص بعرض (البطان) بمركز شباب السجانة كنت من ضمن المشاهدين ولأول مرة أشاهد هذا العرض الذي ترك أثراً كبيراً في نفسي حتى أنني لم يغمض لي جفن في تلك الليلة والتي كنت قد شاهدت فيها دماء الشباب التي تقطر من ظهورهم والتي قد بللت ثيابهم.. أحد الشباب والدماء تقطر من ظهره كان يصر على تكرار عدد الضربات بالسوط لأشباع رغبته وعند رفض الجميع أصيب بحالة من العصبية فحملوه بعيداً وتجمعوا نحوه لإقناعه ولكن هيهات. إن الإنسان لا يحقق أفعاله الدرامية في العالم الخارجي بقناعة إلا لكي يزيد من خصب حياته الباطنة واننا حيث نستعمل حريتنا فاننا نحقق وجودنا الضمني في العالم الواقعي ونرمي ما وراء الفعل إلى زيادة احساسنا بالوجود وتقوية شعورنا بذواتنا وهذا يمثل البعد الداخلي للانسان بوصفه استجماعاً لشتات الذات وامتلاكاً لزمام النفس والإنسان يحيا على نحو ما توجد الاشياء فيكون مهيأ بأن يتماشى مع القوة الخارجية، وكثيراً تبدو له الحياة الاجتماعية بمظهر التنازل عن مواقفه، واستخدام هذه الممارسات هو عبارة عن اشباع حاجات النفس والبدن التي لا تحتمل تأخيراً والممارسة الجمعية تعني الانغماس في دنيا الناس مهما كانت وهذا اسهل من الهبوط في أعماق الذات (الموت وسط الجماعة عرس)، إن ممارسة هذه العادة هي تعايش الفرد تعايشاً تاماً وانسجامه كما الممثل الذي يتسلل تحت جلد الشخصية فيفقد شعوره بذاته بهدف اثبات وجوده بأداء يخلق ضربا من الانسجام بين الذات والعالم الخارجي فيشعر بوجوده الفردي وسط الجماعة وهو يتألم وهو مناسبة لشعور الذات بوجودها من حيث انها متأصلة في أعماق الوجود العام فيتجه الشخص بانتباهه نحو تلك النيران الباطنة التي تشتعل في جوفه فتنطفئ بمجرد خروج دمائه الساخنة ولسان حاله يقول انني بطل التحمل وإنني اشجع بكثير مما ترون وأكثر ما تنطق به حركاتي وأفعالي ومشاعري ومظاهري، أنا حربة تحدد مصيرها من أعماق وجودها الباطن، فهو يسعى جاهداً في سبيل الحصول على الضمانات الكافية أمام الفتيات وشتى ضروب الوقاية اللازمة باتخاذ اسلوب التحمل ما يشبع خاصته الملحة لاثبات رجولته وذلك يؤدي إلى الطمأنينة. ولنا لقاء