د. بابكر محمد توم رئيس اللجنة الاقتصادية الأسبق بالمجلس الوطني لأكثر من عدة دورات، يعتبر واحداً من أميز الخبرات الاقتصادية السودانية، يمتاز بقوة الطرح في تناول المشكلات الاقتصادية ودقة التحليل، وله جرأة فائقة في الحديث بكل شفافية. جلسنا إليه خلال هذا الحوار وطرحنا عليه العديد من القضايا الاقتصادية التي يواجهها السودان، بداية بقضية مخصصات الدستوريين التي أُثيرت في البرلمان والمشكلات الإيرادية التي تواجهها الميزانية الآن، بجانب قضية النفط والتجارة مع الجنوب، إضافة إلى حديثه عن الشركات الحكومية وقضايا الاستثمار وآلية مكافحة الفساد، وهي كلها قضايا تناولها بدقة تحليلية كاملة مصوباً حديثه نحو المعالجات.. فلنطالع إفاداته: { ما سبب رفض مقترح تعديل مخصصات الدستوريين وإجازة الميزانية رغم الجدل الذي دار؟ - لم يكن هناك رفض من المجلس الوطني لمسألة تعديل مخصصات الدستوريين، وقد قبل الاعتراض الذي سجلته العضو «عواطف الجعلي»، الذي ترى فيه إيقاف الميزانية إلى حين إجازة التعديل، لكن من ناحية إجرائية رئيس البرلمان يرى أن تعديل مخصصات الدستوريين أمر رغم أهميته لابد أن تسبقه اتصالات ومشاورات بين رئيس المجلس والجهات العليا في الدولة حول هذه المسألة. { لكن المواطن لا يدرك مثل هذه الإجراءات ويضع اللوم على البرلمان؟ - البرلمان سبق أن بادر قبل ذلك وخفض مرتبات الدستوريين بنسبة 25%، وكما ذكرت لك هناك إجراءات لا بد منها وطبعاً الميزانية تمرر من وزارة المالية لمجلس الوزراء وتتم مناقشتها ثم تقدم للبرلمان، ويبقى تعديل القانون الخاص بمخصصات الدستوريين لا يأتي خلال العمل في وضع الميزانية، بل يجب أن تسبقه إجراءات معلومة، والقانون نفسه لا بد أن تكون له قراءة أولى وثانية، وكما ذكرت لك سبق أن تم تعديل مخصصات الدستوريين وهذا تم قبل البدء أو أثناء سير الميزانية، والعضو «عواطف» قدمت هذا المقترح لكن كان أثناء سير الميزانية، وهذا التعديل لم يكن ممكناً. لكن الآن يمكن؛ في بداية الدورة الجديدة؛ أن يقدم مجلس الوزراء أو أي نائب مبادرة بتعديل مخصصات الدستوريين، لكن من الأفضل لأمر مثل هذا أن تتم دراسته قبل إدخاله للبرلمان، لأنه إذا قدمته أنت كعضو فيه جوانب لا بد من تفصيلها، مثل: بمقدار كم يتم التخفيض؟ ولا بد أن يكون هناك ترتيب لذلك، أما التخفيض كمبدأ فلا أحد يرفضه، والدولة في قمتها راغبة في تخفيض الصرف العام. { لكن التعديل الوزاري الأخير جعل الدولة أكثر ترهلاً مقابل الضغوط الاقتصادية التي تواجه البلد، ما دوركم كبرلمان؟ - نحن خلال مناقشة الميزانية طالبنا بتقليص الجهاز التنفيذي وذهبنا للولايات، وكان هناك اتجاه قوي لذلك، الولايات نفسها تخفض وزراءها ومعتمديها. { إذن.. ما الذي منع القيام بذلك؟ - طبعاً في النهاية لكل ولاية رؤية ووضعها السياسي الذي يقتضي أن تجري بعض التوسعات لمعالجة مشاكل بعينها، وكذلك مجلس الوزراء الاتحادي أدخل عناصر من أحزاب أخرى لم تكن داخله في الفترة السابقة. { طيب.. هل الميزانية تبنى على أرقام أم رؤية سياسية؟ - الميزانية في الآخر هي رؤية سياسية، بمعنى أن الجانب الاقتصادي محكوم بالرؤية السياسية للبلد، (يعني الناس ما يفتكروا هي أرقام) بل هي خطة لسياسة الدولة التي رأت من الأنسب إفساح المجال لجهات ترغب في المشاركة من أجل استقرار البلد الذي قُدِّم في هذه الحالة على الجوانب الاقتصادية، لكن واضح (ما في زول عادي) ملم بالتفاصيل يقبل أن مجلس الوزراء يتوسع بهذه الطريقة، لكن عندما تدخل أهداف استقرار البلد كأهداف سياسية عليا أنت هنا تخضع الجوانب الاقتصادية للرؤية السياسية، لأن الاقتصاد خدمة للوضع السياسي الموجود، يعني ليس شيئاً نظرياً يبنى على فراغ، لذلك رغم حديث النواب بكثرة عن تخفيض الصرف على الدستوريين في المركز والولايات واضح أن هناك رؤية سياسية، لأن المركز والولايات في حاجة لتوسيع دائرة المشاركة بإدخال عناصر أخرى لتحقيق الاستقرار الذي يجعل الاقتصاد ينمو، وبالتالي التوسع الذي حدث فرضته ظروف معينة وتجاوبت معه الميزانية. { لكن هل يؤدي هذا إلى نمو اقتصادي أم نكسة وانحدار؟ - في الحقيقة هذه موارد كان يجب أن تستخدم في التنمية بدلاً من صرفها صرفاً جارياً، لكن إن لم يحدث استقرار سياسي لن يتوفر الجو الملائم للتنمية نفسها، لأنها لا تتم إلا في ظل الاستقرار، وكذلك الاستثمار الأجنبي لا يأتي إلا في وجود استقرار سياسي، لذلك في سبيل هذا الاستقرار تصرف كل مواردك وتقول (ما عندي) موارد، لكن حققت استقراراً سياسياً وتتفرغ لمسائل التنمية والاستثمار. { من رؤية اقتصادية بحتة، أليس من الخطأ اتباع هذا النوع من المعالجات؟ - لا نقول خطأ، لكن هذه المعالجات نوظفها لجلب المزيد من الاستثمار والمزيد من الفرص للبلد ونركز على الزراعة والصناعة وتسهيل التجارة حتى يحدث نمو اقتصادي، فأيهما أسبق اليوم لو وجهت كل الموارد تجاه التنمية دون استقرار هل ستستمر التنمية؟ لذلك لخدمة الاقتصاد أحاول أولاً إحداث استقرار ثم أقفز للتنمية، وأظن هذه لبنة أساسية وضعتها الدولة، بعد ذلك لتتجه بكلياتها نحو التنمية التي لا تحدثها موارد البلد وحدها، الاستقرار هو الذي يجذب الاستثمار والتنمية ثم من خلال الدولة المستقرة، والميزانية مهما كبر حجمها لا تنشئ أية بنية ولا توفر أية طاقة، لاحظ سد مروي وتعلية الرُّصيرص لم تقم من الميزانية، كلها تمت بعون أجنبي من استثمارات وقروض. هذه الأموال لا يمكن أن تأتي إن لم يحس أصحابها بأن البلد يمر بمرحلة استقرار. { من بداية الميزانية هناك شح في الإيرادات ما أحدث قلقاً وانزعاجاً؟ - طبعاً الموازنة تضمنت رقم إيجار خط الأنابيب، وهو رقم كبير جداً فيها، لكن إلى الآن لم يتحقق منه إيراد، ومعروف دائماً بداية السنة في يناير وفبراير هي مواسم شح لا تنساب فيها الإيرادات بالحجم المتوقع، لأن الجمعيات العمومية للمؤسسات والشركات والبنوك لا تعقد إلا في شهر مارس، وطبيعي أن تكون الموارد غير منسابة، لذلك لا أرى داعيا للانزعاج الذي عليه الناس الآن. { لماذا لم يكن هناك اتفاق أو بروتوكول واضح يحكم مسألة إيجار الخط الناقل هذه؟ - صحيح نحن لم نتفق على إيجار الخط لكن تم نقاش مع إخواننا الجنوبيين في مسألة الأصول وعائدات النفط ويعلمون أن خط الأنابيب من حق الشمال واستخدامه باعتباره مستأجرا وهناك الكثير من الخدمات تقدم من المعالجة التي تتم للنفط في بعض النقاط بجانب الأثر البيئي الذي يحدثه لذلك لا بد أن يدفع مقابل هذا، ونحن لسنا أول دولة تطالب بذلك، هناك البترول التشادي يمر عبر الكميرون والإيراني عبر سوريا. { إذن.. ما دام هناك نقاش قد تم وهو مسنود بسوابق لتصدير بترول دول أخرى عبر خطوط عابرة لدول، ما سبب هذا التعقيد؟ - السبب في هذه الأزمة عدم نقاء الجو بين الطرفين بسبب الشحن الزائد لإخوتنا الجنوبيين، وإن جئنا للحق الشمال مفروض يكون له نصيب في البترول أكثر من إيجار الخط الناقل لأنه استخرج هذا البترول. لكن لأن الجنوبيين كما ذكرت لك مشحونون ويفتكروا أننا جوعناهم بإغلاق تجارة الحدود بالتالي يريدون الانتقام برفض دفع إيجار ونحن لا نرفض تجارة الحدود معهم لكننا نريدها تجارة حرة، يعني لو كانت هناك سلع بسيطة: ذرة بصل زيوت وغيرها، نحن لا نبيعها لهم بالجنيه الجنوبي، لا بد أن تكون هناك مناطق تجارة يتم التعامل عبرها. { ألا توافق بأن البحث عن حلول لمثل هذه القضايا تأخر كثيراً؟ - نعم هذه حقيقة كان يجب أن يتم مثل هذا الحل قبل الانفصال ولا نترك الأمر عالقاً حتى اليوم، بل كان يجب حسمه منذ عام 2005م. { برأيك كاقتصادي، ما الخلل الذي جعلنا لا نستفيد من عائدات النفط كمدخرات في الفترة الماضية؟ - بعد عام 1999 صار عندنا بترول نصدره، وكان الحديث يدور منذ ذلك الوقت حول تجنب الوقوع في فخ مرض البترول، وهو ما يُعرف بالمرض الهولندي في الاقتصاد، لأن هولندا بلد زراعي عندما اكتشف فيها الغاز تحولت كل عناصر الإنتاج تجاهه، ونحن رغم حذرنا وقعنا في المرض الهولندي، أضف إلى ذلك نحن لدينا ظرف أمني سواء الذي كان سائداً في الجنوب أم دارفور رغم ذلك هذه الموارد لم تذهب هباء فكثير من مشروعات التنمية التي قامت بالبترول، صحيح كان علينا التركيز على الزراعة أكثر لكن لولا عدم استتباب الأمن الذي أشرت إليه لكانت هذه الموارد وجه أكثرها للزراعة وعندك النهضة الزراعية لها (3-4) سنين. وكثير من دول العالم ترى أن الاعتماد على النفط أمر غير سليم لذلك علينا أن نهتم بالزراعة لأن 70% من سكان السودان يعتمدون عليها وهي التي تحرك التجارة والصناعة. { ما رأيك في مفاوضات أديس أبابا بشأن البترول؟ - بصراحة الشروط التي وضعها الجنوبيون تعجيزية وتضمنت مسائل لا علاقة لها بالبترول مثل مقايضة أبيي وأخذ بعض النقاط الحدودية بل حتى تضمنت تنازل السودان لهم عن أسهم سودابت. أفتكر هذا نوع من الاشتطاط في المطالب. الأمر متعلق بخط عبور البترول وهو الذي يجب أن يصل فيه لاتفاق حتى الوسطاء أقروا بهذا الحق للسودان حتى اتفقوا على ذلك لكن الجنوبيين غيروا رأيهم. لكن هذا شيء تكتيكي للضغط على السودان وفي الآخر السودان سيأخذ حقه. { إذن.. ما المطلوب من وزارة المالية لسد عجز إيراد خط الأنابيب في الميزانية؟ - وزارة المالية عليها وضع تدابير كبدائل حتى لا يكون لديها خلل؛ بأن تتخذ مزيداً من إجراءات الضوابط المالية ومزيدا من الترشيد والتخفيض في أموال التسيير مثل استخدام السيارات والنثريات اليومية والكهرباء وغيرها وهي تمثل 15% من جملة الميزانية. ثانياً عمل نوع من البرمجة وإعادة الترتيب لمشروعات التنمية التي تنفذ من الميزانية حسب الأولويات وحشد الموارد الجمركية والضرائب لأنها على أيام البترول كانت تمثل (50%) من الميزانية الآن أصبحت تمثل (70%) وهو الدخل الأساسي للميزانية وتزيد مواردها بمنح دافعي الضرائب تخفيضا يصل ل 10% تشجيعاً لمن يدفع في يناير وحتى مايو وكذلك ممكن الاقتراض من ضرائب البنوك بنسبة (20-30%) قبل عقد جمعياتها العمومية، بجانب تأجيل سداد ما يُعرف بالدين الداخلي، يعني أية جهة تطلب الدولة يؤجل السداد لها لما بعد شهر يونيو، لأنه لا بد أن تكون هناك بدائل قبل أن يأتي عائد خط الأنابيب، تلجأ إليها الدولة لسد العجز. ثم إن الأزمات التي حدثت في أوروبا ليست هناك دولة عالجتها لوحدها، لا بد أن يكون هناك تعاون عالمي وإقليمي ووزارة المالية ليست نائمة وتحاول من خلال علاقاتها مع المؤسسات ومعروف أن بنك التنمية الإسلامي جدة والصناديق العربية كلها تمنحنا. { ماذا عن مدخرات المغتربين وكيف ترى التعامل معها؟ - نحن للأسف لم ننجح في وضع سياسات تجذب مدخرات المغتربين التي تقدر ب (3) مليارات دولار مثل ما فعلت الدول الأخرى لأننا نربطهم بسعر صرف للعملة غير واقعي، فتجد الدولة تربطهم بسعر جنيهين للدولار بينما في السوق الموازي سعره (4) جنيهات وهذا المغترب لديه التزامات. يجب وضع سياسة تحفيزية للمغتربين بإعفاء السيارات من الجمارك ومنحهم قطع أراضٍ لجذب مدخراتهم التي بضخامتها هذه مدورة في السوق للاستفادة منها على المدى المستقبلي، وأفضل أن يكون هذا التحفيز عبر الولايات لربط المغترب بأهله، والمغترب أكبر من الاستثمار الأجنبي وأضمن إذا تعاملنا معه بسياسة واقعية. كل الدول ترعى مغتربيها وهناك في كل سفارة قناصل عماليون، يجب على الدولة أن تزيد اهتمامها بهم. مثلاً تعفيه - المغترب - من بعض الرسوم مقابل ما قدمه من عملة أجنبية، وهذه سياسة مطبقة في كثير من دول العالم. { برأيك هل مشروع النهضة الزراعية مبشِّر؟ - قبل أن نكمل قال: ما في حاجة اسمها نهضة زراعية لوحدها، ما لم تقم معها نهضة صناعية مواكبة. وأيضاً نهضة تجارية تسهل التجارة الحرة حتى يستفاد من الزراعة عبر التجارة داخلياً وخارجياً. لن نستفيد من الزراعة الآن لأننا في مؤخرة الدول في التصنيف العالمي لتسهيل التجارة، (وإنت عارف براك) نقاط التفتيش والرسوم المكررة.. ونظرتنا للتجارة هي المقيدة للزراعة، ونحن لم نطوِّر تركيبتنا المحصولية، (مما قمنا وجدناها فول سمسم ذرة كركدي)، يجب أن ننوِّع في الزراعة حسب ما يحتاجه السوق العالمي وأن نفتح المجال ليأتي أناس من الخارج للعمل في الزراعة. حتى اللحوم هذه الحيوانات الحية إن لم تصنَّع لحومها لن تأتي بالعائد المطلوب حتى إن وصل صادرنا (100) مليون رأس بسعر مائة دولار كأنها براميل لا تساوي شيئاً. لذلك يجب أن تكون خطتنا المستقبلية الاستفادة من السلع المصنعة في الأسواق العالمية وتسهيل التجارة مش أي سيارة محملة بأي سلعة زراعية تدفع ألف إيصال عشان تصل للعاصمة. { كيف نتعامل مع الجنوب كدولة ناشئة.. عبر التجارة أم خط أنابيب النفط؟ - نحن عبر التجارة وبسلع ليس لها أي سوق خارجي مثل البصل والويكة والذرة وهي سلع بسيطة يمكن أن نعيد مبالغ أكثر مما يدفعه لنا الجنوب في إيجار خط الأنابيب وممكن عبرها نعيد كل المبالغ التي فقدناها من عائد البترول. يجب علينا عدم إضاعة هذه الفرصة التي يجب أن نستغلها قبل أن تغزو الجنوب دول الجوار (كينيا، يوغندا، زائير) وطبيعي وسهل أن تتعامل مع جار كان معك، أضف إلى ذلك إن لم نتعامل بطرق رسمية سينشط التهريب. حدودنا مع الجنوب (2700) كلم هل تستطيع حراستها؟ الآن هناك تجار يأخذون السلع (باللفة) عبر البحر الأحمر لذلك لابد من تعامل تجاري حُر ومستقر ومقنن نمنحهم فيه كل الميزات التي تجعلهم أقرب إلينا بدلاً من أن يذهبوا ليوغندا أو غيرها ونفتح ملايين فرص العمل. والآن أفتكر بنك السودان ووزارة التجارة شرعا فعلاً في هذا ومتبقي موافقة الجانب الجنوبي. { أي أنك ترى التركيز على التجارة أكثر من البترول في هذه المرحلة؟ - نعم نركز على التجارة وقضية البترول تحل تلقائياً (ولو ما عملتها إنت غيرك من الدول سيعملها وكده ما ح تجد سوق والتجارة فيها الرحمة.. عندما تتاجر مع شخص تقوي علاقتك به وتعالج كل مشاكلك).