: إن الكنيسة القبطية هي كنيسة الإسكندرية، ومدينة الإسكندرية بناها الإسكندر الأكبر وسميت باسمه، وكانت موجودة عند بدء المسيحية، ممتلئة بالناس، عامرة بالمثقفين، ذات تجارة رائجة وناجحة، وموقع ممتاز ومميز، ولقد ولدت الإسكندرية على يد الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد حدث في عام 331 ق.م أن الإسكندر الأكبر وهو في طريقه إلى زيارة معبد آمون في صحراء مصر الغربية لينال رضى الآلهة، توقف عند جزيرة «قاروس» غربي الدلتا، وهو مكان هبوط «أودسيوس» كما جاء في الأوديسا، وكان الإسكندر صاحب بصيرة نافذة، وقرار جريء، لقد أدرك الإمكانيات الإستراتيجية للموقع، ولاحظ مكان قرية راقودة أو أكونتيس، فقرر أن يبني وبسرعة مدينة عظيمة تسيطر على مدخل أغنى أقطار إمبراطوريته، وأن تسمى هذه المدينة باسمه، وأعطى الإسكندر للمهندس المشهور دينوكراتيس تفويضاً كاملاً ليبني إسكندرية كما بنى من قبل هيكل ديانا الشهير، وقد صارت إسكندرية تأتي بعد روما العظيمة، وبعدها أصبحت من أشهر المدن، شوارع مستقيمة، ومتوازنة، عرض الشارع يقرب إلى خمسين متراً، وأقيمت فيها قلاع ومعابد وقصور ومبانٍ حكومية، وحدائق غناء، تم تنسيقها في تصميم هندسي رائع، ويذكر بليني أن محيط المدينة كان خمسة عشر ميلاً، ومن كان ينظر إليها من أعلى، يراها مثل المعطف المكدوني الذي صار يرتديه أسلاف الإسكندر الأبطال، كما أقيم حاجز ضخم ليربط الجزيرة بالشاطئ، وبذلك نشأ ميناء مزدوج، أصبح أفضل الموانئ، وقبل رحيل الإسكندر من العالم، وكان زمان رحيله بعد ثلاثة وثلاثين عاماً فقط، قام فيها بأعظم الأعمال، والعمر لا يقاس بالسنوات ولكن بالإنجازات، لقد شيد الإسكندر حضارة في أعوامه القليلة وفي نفس الأعوام قام السيد المسيح الذي تعدت حياته ثلاثة وثلاثين عاماً بأشهر قليلة، ببناء روحانية عالية سامية، ملائكية، طاهرة، شفافة، في نقاء الثلج، وغسل قلوب الناس من أدران الخطية، ونزع من أحشائهم قلب الحجر ووهبهم قلب لحم. كانت مدينة الإسكندرية ميناءً شهيراً، ومركزاً تجارياً كبيراً، وموقع حركة وتواصل خطيراً، وكان لابد أن يبدأ مرقس المبشر بها، وفيها يؤسس الكرسي المرقسي، وظل البابا يُرسم في مدينة الإسكندرية، ولم يبدأ في الإقامة في مصر إلا بعد القرن الحادي عشر، وفي غضون القرن العاشر عندما بنى جوهر الصقلي قاهرة المعز، وكان لا بد للبابا أن يكون قريباً من مركز الخليفة في القاهرة. وصار يطلق على كرسي مارمرقس كرسي الإسكندرية والغريب أن بعض الكتب العربية تطلق على كنيسة الإسكندرية، الكنيسة اليعقوبية، وتقول إن الأقباط يعاقبة، وهم ليسوا كذلك، لقد كان يعقوب البردنوهي، أو يعقوب براديوس هو أسقف مدينة «أوديسا» وكان متفقاً جداً مع الكنيسة القبطية في الإيمان بطبيعة واحدة للكلمة المتجسد، وتقول موسوعة الأديان الميسرة دار النفائس،2007م بيروت، أن اليعاقبة هم الجماعات المسيحية التي اعتنقت العقيدة المونوفيزية التي تؤمن بطبيعة واحدة للسيد المسيح، وبأن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة ولا طرفة عين، ودعيت هذه بأنها الكنيسة السريانية الأرثوكسية، وهي واحدة في الإيمان مع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وقد سعى الأسقف يعقوب إلى تأصيل عقيدة الطبيعة الواحدة، ورسم العديد من الأساقفة، والكهنة، وأسس كنيسة قوية، قويمة المعتقد، مستقيمة الرأي كما تعني كلمة أرثوذكسي، واتسعت هذه الكنيسة وانتشرت ليس فقط دعماً للاهوت الأقباط إنما أيضاً رغبة في مناهضة السلطة الإمبراطورية، والثقافة اليونانية، واتسعت كنيسة اليعاقبة لتجميع سائر الجماعات السريانية في بلاد ما بين النهرين، وبلاد فارس، وكانت علاقاتها مع الكنيسة القبطية قوية ومن هنا جاء خلط بعض الكُتاب، وادعاء أن الأقباط أنفسهم يعاقبة، ومن المعروف أن اليعاقبة فرحوا بالفتح العربي سنة633م، واعتبروه خلاصاً وإنقاذاً من سطوة الأباطرة والإمبراطورية الرومانية. مرقس والإسكندرية: كان مجيء مرقس إلى الإسكندرية في عام43م كما يقول يوسابيوس، وسنة 45م بحسب رأى لويزا بوتشر، ويرى آخرون أن هذا كان عام 55م، أما البابا شنودة، فيقول إن الأعوام المبكرة كان فيها مرقس شاباً غضاً، ويستنتج أنه جاء إلى مصر بعد مجمع أورشليم الذي انعقد عام 51م بمدة، لأنه بعد المجمع ذهب إلى قبرص، وعلى هذا يرى البابا شنودة أن مرقس جاء إلى الإسكندرية في عام 60 أو 61م، وعندما جاء مرقس إلى الإسكندرية كان قد سبقها في رحلة إلى الخمس مدن الغربية ليبشر أهله هناك في ليبيا مسقط رأسه، وربما جال بذهن مرقس ما جاء في أشعياء النبي عن مصر،: وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ: «هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا.(أشعياء1:19) فَيُعْرَفُ الرَّبُّ فِي مِصْرَ وَيَعْرِفُ الْمِصْريُّونَ الرَّبَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُقَدِّمُونَ ذَبِيحَةً وَتَقْدِمَةً وَيَنْذُرُونَ لِلرَّبِّ نَذْراً وَيُوفُونَ بِهِ. وَيَضْرِبُ الرَّبُّ مِصْرَ ضَارِباً فَشَافِياً فَيَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ فَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَيَشْفِيهِمْ. «فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ سِكَّةٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَشُّورَ فَيَجِيءُ الأَشُّورِيُّونَ إِلَى مِصْرَ وَالْمِصْرِيُّونَ إِلَى أَشُّورَ وَيَعْبُدُ الْمِصْرِيُّونَ مَعَ الأَشُّورِيِّينَ. فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ إِسْرَائِيلُ ثُلْثاً لِمِصْرَ وَلأَشُّورَ بَرَكَةً فِي الأَرْضِ بِهَا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ وَعَمَلُ يَدَيَّ أَشُّورُ وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلُ».(أشعياء19 -21-25). وربما تذكر مرقس رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، وكيف كانت ملائكة الرب تتحدث مع يوسف النجار أن يبدأ، ثم أن يرجع، وأن يكون رجوعه إلى موقع آخر هو الناصرة.. ولا شك أن مرقس عندما دخل إلى مدينة الإسكندرية، انسكب أمام الرب في تضرع روحي أن يسانده في الخدمة، ويسلحه بأسلحة روحية، وأخذ يجول في شوارع المدينة، وتمزق حذاؤه من كثرة السير، فذهب إلى حنانيا أو أنيافوس الإسكافي ليصلحه، وفيما هو يصلحه، دخل المخراز في إصبعه، فصرخ الإسكافي بعبارة «إيوس ثيئوس» أي بالله الواحد، وهنا رقص قلب الرسول طرباً عندما سمع هذه الكلمة، وكان هذا مدخلاً للحديث عن الله الواحد الذي جاء لأجله مرقس إلى الإسكندرية.