تشكلت ملامح الأفق السياسي السوداني قبل استقلاله بفعل خارجي ربما ولكن ليس بإرادة وطنية خالصة، فتكوين الأحزاب السياسية في السودان تم بإشارة من الاستعمار ربما استجابة لرغبة وطنية أو محاولة للإبقاء على روح الاستعمار في جسد وطني. التشكيل الوطني الأول ولد وفي داخله الاختلاف ثم كانت محاولة التحكم عبر الطوائف في تجربة الأحزاب، ومع بروز التيار الوطني ومؤتمر الخريجين بدأت الانقسامات داخل الأحزاب السياسية ثم كان التمرد الأول في العام 1955، تبعه الانقلاب العسكري الأول في العام 1958م ثم جاءت انتفاضة أكتوبر 1964. هذه الملامح التي شكلت الأفق السياسي ولدت معها حالة من عدم الاستقرار لتجارب الحكم الوطني التي استمرت من بعد ذلك، حيث لم يحالفها التوفيق في أن تبقى أو تستقر نفسها أو أن تستقر بالبلاد، وأصبحت هذه الدائرة الشريرة انقسامات وتمرداً وانقلابات وانتفاضات، وهكذا في تجربة الحكم العسكري الأول والتي نُسبت إلى حزب سياسي معين ثم التجربة العسكرية الثانية في مايو 1969 التي نُسبت إلى اليسار، وقدمت ثلاثة أنواع من التجارب السياسية حسبت شرارتها الأولى كما قلت على اليسار ومضت نحو الوسطية في مرحلتها الثانية، ثم انتهت يمينية في أواخر أيامها. من كل هذه الفذلكة السياسية المختصرة لمسيرة حكم السودان لتلك الحقبة تجيء اليوم ذكرى انتفاضة أبريل رجب الشعبية في العام 1985 وهي في حساب الثورات تعتبر ثاني ربيع أفريقي عربي سوداني. مايو التي بدأت بأناشيد قوية منها (حبابك ما غريب الدار) (وعشان نبني اشتراكية) في بداية الثورة الحمراء، إلى (يا مايو خالد في القلوب) في مايو الوسطية إلى النهاية المايوية اليمينية، تلك كانت هي محطات مايو الدعائية الكرنفالية. نميري لم يكن في العام 1985 كعبود في العام 1964م، حيث كان يعلم تماماً أن الشارع متذمر وأن الظروف المعيشية سيئة، على عكس عبود الذي بكى حين رأى المد الشعبي، وقال حينها قولته الشهيرة: (لم أكن أعلم أن الشعب جيعان). جعفر نميري غادرت طائرته الخرطوم متوجهاً إلى أمريكا في رحلة فحوصات طبية عادية والانتفاضة في قمتها، وكانت الخرطوم عاصمة خالية من كل شيء، المكابرة والغلو والاستهتار بغضبة الشعب والاعتزاز بالنفس جعل نميري يتسصغر ذاك الحدث ويُغادر سماء العاصمة الخرطوم التي كانت تمتلئ بالدخان. صمت المايويون بعد مغادرة طائرة الرئيس واستمر الحال والتزم الإسلاميون الذين شاركوا نميري في الحكم الصمت بعد أن زج بقيادتهم قبل الانتفاضة دون سابق إنذار، تصاعدت وارتفعت وتيرة الغاضبين في الشارع ومضت الساعات الحرجة والأيام وكل الأجهزة الرسمية ومؤسسات مايو العسكرية والمدنية كانت في ذهول تتفرج، محاولة يائسة قام بعض ما تبقى من المايويين من خلال تحرك مضاد للشارع لم يكتب له النجاح في محاولة سموها (مسيرة الردع) لكنها انهارت هي الأخرى أمام الطوفان الشعبي. نميري الذي كانت صوره على صفحات الجرائد ماكيت ثابت يعاقب رؤساء التحرير ومجالس الإدارات إن لم يلتزموا بذلك، غاب هذا المشهد يوم 5 أبريل. الإذاعة التي كانت تردد نشيد (خطوة عديلة يا جعفر على الأعداء الله أكبر) غيرت أناشيدها إلى الأناشيد الوطنية، واكتنف الغموض مساء الخامس من أبريل إلى أن جاء صباح السادس من أبريل حاملاً البشرى والوعد والتمني والأغنيات، فتبدل النشيد الإذاعي والتلفزيوني إلى (يا شعباً لهبت ثوريتك) (وكان اسمها أم درمان وكمان اسمها البقعة وكان العُرس عُرس الشمال).