انحبست أحلامهم وضاقت خياراتهم، ضاقت بهم البسيطة، لم تحتضنهم إلا المقابر بجانب الموتى ليعيشوا حياة موحشة وحشة القبور التي تجاورهم. غيرهم من الناس يخرجون من منازلهم صباحا يستقبلون الحياة، لكن سكان المقابر تكتحل عيونهم برؤية الموت الذي يحيط بمنازلهم الشاحبة المهترئة. لفظ الموت لا يرعبهم، ومرآه حاضر في تفاصيل حياتهم التي نسجت خيوطها من البؤس والفقر، أطفالهم لا يخيفهم شيء، لكن يخجلهم السكن في المقابر حينما يذهبون إلى المدارس ويلتقون برفقائهم من التلاميذ. تناقضات اجتماعية رمت بظلال معتمة على تكوينهم النفسي، ما أورثهم مزيجا من الأحاسيس التي لا تتمازج بداخل أحد سواهم، كأنها حصرية.. نظراتهم تحتضن معنى الأسى العميق وابتسامتهم ذابلة وباهتة، كل شيء حولهم يشدهم لبراثن الموت.. ينادون، لكن نداءاتهم لا تلفت أحدا، هي تنسب للموتى، يلفهم عالم قاس، اندثرت على جنباته معالم الحياة فباتوا مكسوري الخاطر تتكفن أحلامهم البسيطة في العيش وسط الأحياء. * العيش وسط الموتى عندما تمر المواصلات والعربات الخاصة، وحتى المشاة، بجوار مقابر حمد النيل، تبطئ الحركة وتخرس الأصوات، لتهمس الشفاه بعبارات الدعاء، ويسبح تفكير البعض في فضاءات التأمل، المرور بالمقابر يصيب النفس بأحاسيس متباينة؛ الخوف والحزن والأسى.. في خضم هذه الحالات الروحانية.. يستوقفك في إلحاح مشهد لبشر أحياء تعجّ بهم المقابر، ليسوا زائرين لأعزاء فارقوا الحياة، متذكرين للموت، لكنها أسر بل أطفال ونساء ورجال اتخذوا من مقابر حمد النيل، مأوى وبيتا وسكنا وأهلا وجيرانا، يعيشون حياة كاملة، هنا تتشابك الاستفهامات القلقة، كيف يعيش هؤلاء؟ كيف تكون صباحاتهم؟ كيف يقيمون أفراحهم وهي أسر تجاوزت مدة إقامتها الخمسين عاما؟ وباختصار هي كيف الحياة وسط الموتى والمرور بالمقابر لدقيقة تقشعر له الأبدان؟ وكيف يحيا هؤلاء الأطفال؟ أين الميادين والمساحات التي يمرحون ويلعبون فيها وتحتضنهم الحياة؟ كلها تساؤلات حملتني مبهورة الأنفاس، إلى أن أحل ضيفة على مقابر حمد النيل. * جلسة قهوة بالمقابر مضت بنا عربة (الأهرام اليوم) هادئة ومتمهلة، ولزمنا الصمت أنا ومرافقي من الصحيفة، والعربة تتوغل إلى داخل مقابر حمد النيل. الكل دعا للموتى، والبعض حسب رؤيته قرأ الفاتحة. توجست بعض الشيء، كيف تستقبلني هذه الأسر التي ألفت حياة المقابر؟ انتابتني وحشة الضيف وأي ضيف، تنازعتني التساؤلات؛ هل يرحبون بي لأنني أنتمي إلى عالم الأحياء مثلهم أم يرفضون ذلك لأني خارج منظومة الموتى؟ وقفت حائرة أبحث عن مدخل مناسب، قبل أن أتأمل بعض القبور وهي ترقد قريبا جدا من مدخل المنزل.. رأيت الأطفال يلعبون حولها، مشهدهم مهتز، ووجوههم ذابلة وابتساماتهم باهتة كملابسهم التي تلتصق بأجسادهم النحيلة.. بدوا غير خائفين، لكنهم متجمدو الملامح. قلت في نفسي ربما تقبلاً لأمر الواقع.. وقفت عند مداخل المنازل المتداخلة، هي لأقرباء كما عرفت في ما بعد، أتأمل مظاهر الحياة، هناك مياه وملابس منشورة بعد الغسيل ورائحة قهوة أصابتي بطمأنينة نوعا ما.. مكثت مدة طويلة دون أن أرى أحدا.. شعرت أن المدة طويلة جدا حتى أتت امرأة سمراء بملابس البيت، نادت عليّ: تفضلي. بابتسامة واضحة أزالت كثيرا من الوحشة التي سكنت جنباتي، شعرت أن مهمتي سوف تكون أسهل. أقبلت نحوها ودعتني إلى داخل راكوبة تتوسط البنايات الهزيلة، كان بها أربع نسوة ورجلان أحدهما شيخ وآخر شاب، ويبدو أن معهم ضيوف، كانوا يعدون لتناول القهوة. جلست قريبا من إحداهن قلت لها بصوت هامس: "أنا صحفية عايزة أعمل شغل عن سكنكم في المقابر". قالت: تفضلي. بادرتها بسؤال: "عايني، عايشين كيف في المقابر ومن متين؟". قبل أن تجيبني أطلقت ضحكة، هي ضحكة المغلوب على أمره: "عادي". أخبرتني أن اسمها عوضية، ومنذ نشأت لا تعرف لها بيتا غير المقابر، ولدت في المقابر قبل أكثر من أربعين عاما وعاشت طفولتها في المقابر وتزوجت وأنجبت في المقابر، وأضافت ضاحكة قبل أن تتبدل ملامحها لأسى: "الناس يموتوا في المقابر نحن بنولد في المقابر". وروت أن المقابر هي التي أحاطت بمنازلهم وليسوا هم من ذهبوا إليها، وأضافت: نحن لا نملك أي قطعة أرض في أي مكان غير هذا المكان. وأردفت بحزن شديد: لا أحد يتمنى أن يعيش وسط الموتى لكني لا أملك مالا لإيجار منزل وزوجي كفيف منذ عشر سنوات، كان يعمل في البحرية.. منذ ذلك الوقت هو بالمعاش وأنا أعمل في روضة، دخلنا الشهري بجانب المعاش لا يتعدى ثلاثمائة جنيه، لدي خمسة أبناء، الكبرى تدرس بالجامعة وهي تشعر بحرج شديد من سكنها في المقابر، لا تدعو زميلاتها للمنزل. وأضافت كأنها تهمس لنفسها: "هسي يا إخواني في زول بقول للناس تعالوا لي في المقابر؟". (عوضية) لديها طفلة مصابة بكهرباء زائدة في جسمها، أرهقها الذهاب للأطباء من غير فائدة، ويعمق من جراحها أن ابنها هو الآخر مصاب بضمور في الدماغ، كل ذلك يشكل عبئا ماديا إضافيا بجانب رسوم الدراسة والمصاريف اليومية التي تصفعها كل صباح بالحيرة ويصعب عليها تدبيرها. أما زوجها المصاب (بالموية السوداء) التي أفقدته بصره، فتوقف عن تناول (القطرات العلاجية) بسبب تكلفتها العالية. زوجة شقيق عوضية هي الأخرى لم تسكن في المقابر إلا بعد زواجها، في بادئ الأمر عندما قرر زوجها الانتقال إلى بيت الزوجية توجست كثيرا، لكن أقنعت نفسها بأنه هو ابن عمها وأسرته تسكن في هذا المكان منذ مدة وأخيرا رحلت إلى بيت زوجها مستأنسة به وسط وحشة القبور، كان هذا خيارها الذي أقنعها ورضيت بحالها، لكن بعد إنجابها لأطفال وبلوغهم سن التمييز، بدت أشد تبرما من جراء السكن في هذه المنطقة، وذكرت أن إحدى بناتها أصيبت ب "نفسيات" لأن زميلاتها يطلقن عليها (بت المقابر). قالت: أطفالي توحشوا. من جانبها أضافت إخلاص وهي الشقيقة الكبرى لعوضية، أنها عاشت طفولتها أيضا هنا، وحمّلت ظروف سكنها في المقابر مسؤولية ضياع مستقبلها الدراسي، وأوضحت أن الكلاب الضالة كانت تتحرش بها مما دعاها إلى ترك مقاعد الدراسة، حيث كانت تدرس بالراهبات في ذاك الوقت. * ممارسات بشعة الموت لم يكن هو الوجه البشع للحياة لسكان المقابر، لكن ثمة مظاهر أخرى أكثر ألما تستفز مشاعرهم وإنسانيتهم، حيث يقول السكان إنهم يرون في المقابر ممارسات فظيعة كلها خطأ، ويكون ذلك (مع المغارب)، فهناك أناس لا يردعهم الموت ولا الزمن، يقومون بعمل أشياء قبيحة ولا يخافون من حرمة الميت، وكثيرا ما نرى جثثا لأطفال حديثي الولادة، والبعض يأتي ليدفن السحر أو يستخرجه من المقابر، وكثيرا ما يغشى السكارى والمجانين ومروجو المخدرات المقابر، وآخرون يأتون في رحلات يجلسون على رأس القبر، بجانب آخرين يتسامرون، وهم أيضا جلوس على القبر. ويضيف السكان: حتى أطفالنا تتعثر أيديهم البريئة عندما يجدون بقايا مخلفات الجرائم. * من غير رعب سكان المقابر لا يشغلهم كثيرا مرأى الجنائز والحفر والدفن، أو مظاهر التشييع، تلك المشاهد أصبحت بالنسبة لهم عادية، قالوا: نحن عندنا حصانة من مشاعر الحزن لأنه مشهد عادي جدا نراه يوميا وأصبح جزءا من حياتنا وإذا كنا في كل يوم نبكي مع المشيعين وزائر لقريبه المتوفى سوف تكون حياتنا أكثر بؤسا مما نحن عليه. لكنهم لا ينكرون أن هناك حالات فردية قد تؤلمهم مثل وفاة الفنانين والمشاهير، وغير ذلك لا يهتمون بمن مات، وكيف مات، أما أطفالهم - بحسب قولهم - فقد توحشوا وصاروا عصبيين جدا. * الضيوف لا يبيتون سكان المقابر لا يزورهم أحد من المنطقة المجاورة، بحسب تعبيرهم (فقط المجبورين عليهم)، وأحيانا يزورهم أقاربهم من الولايات لكنهم يفزعون كثيرا وينتبهون لمراسم التشييع وينشغلون بذلك، أما مناسبات سكان المقابر فإنها تقام خارج المقابر إكراما للموتى، ويقول هؤلاء: نعلم أن سكننا في المقابر خطأ لكن أين نذهب؟ أعطونا راكوبة في أي مكان ولن نبيت ليلة في هذا المكان. كانت هذه حصيلة ساعات قضتها (الأهرام اليوم) مع سكان المقابر، حوت كثيرا من التناقضات.. سكون الموت.. ومرح الأحياء الممزوج بكثير من الحذر من جانبي خوف أن أصطدم بمناطق مؤلمة لديهم، بالرغم من ذلك تناولنا كثيرا من القفشات وبعض أكواب القهوة. * تشوهات نفسية واجتماعية البروفيسور علي بلدو اختصاصي الطب النفسي بمستشفى التيجاني الماحي شرح التكوين النفسي لسكان المقابر قائلا: لا شك أن سكن الأحياء بين الموتى يمثل نوعا من الإفراز المجتمعي الناجم عن عوامل اجتماعية واقتصادية مختلفة، وبدوره يؤدي إلى أن تكون الأسرة تعيش في جو فاقد تماما للراحة النفسية وينعدم فيه التوافق الاجتماعي والقدرة على التعايش. ويشير البروفيسور بلدو إلى أن الأطفال والأبناء والبنات من سكان المقابر يعانون من النظرة السلبية تجاههم وقد يكونون مثالا للتهكم من أقرانهم وأقرانهن، وكذلك الشعور بالدونية خلال المشاركة في الألعاب الجماعية، وهم أيضا قد يتعرضون للاستهتار الجماعي وإسقاطات مجتمعية سلبية وأوصاف ونعوت غير مواتية، وأضاف بلدو: هذا كله يؤدي لاهتزاز الثقة بالنفس وصعوبات التعلم وصعوبات التأقلم والتعايش والتكيُّف، وأيضا اضطرابات سلوكية واضطرابات نفسية ذات خصوصية في مرحلة الطفولة والشباب الأولى، مثل التبول اللا إرادي و(التأتأة والتمتمة) وسوء التقيد باللوائح والنظم وتنمية روح الجنوح وتغذية الشعور السلبي نحو المجتمع. كذلك يرى البروفيسور بلدو أن آثار العيش وسط المقابر لا تقتصر على الأطفال فقط وإنما تمتد أيضا إلى باقي أفراد الأسرة والأسرة الممتدة حيث ينمو الشعور بالإحباط وفقدان الإحساس بالمؤثرات الخارجية اليومية مثل رؤية الجنازات وما يصاحبها من مظاهر اجتماعية وحركية أخرى نتيجة اعتياد العقل الباطن والقشرة الدماغية على هذه المشاهد، وبالتالي تفشل المشاهدات اللاحقة في استثارة المراكز العقلية وعدم ضخ المؤثرات العصبية اللازمة لإحداث الشعور المتوقع في مثل هذه الحالة، وهي حالة أشبه بما يسمى بعمى الألوان ويمكن أن نطلق عليها عمى الجنازات. * احتياجات ضرورية في ظل هذه الحالة النفسية والاجتماعية لهذه المجموعة السكانية، يعتقد البروفيسور بلدو أنه من المهم توفير الدعم لمعالجة هذه التشوهات خصوصا الدعومات النفسية والاجتماعية وتوفير البيئة السكنية المناسبة، والمساعدة في الحفاظ على الطفولة من التأثير السلبي للعيش وسط هذه البيئة الجنائزية مما يجعل لديهم القدرة والتفاعل والتعايش بشكل إيجابي مع الواقع المعاش، وما يجعلهم قادرين على العطاء بصورة أفضل وإخراج المكنونات الإبداعية لديهم وتنمية القدرات الذهنية دون خوف أو وجل أو توتر.