أولاً استميح السادة القراء عذراً في سرد هذه القصة الواقعية والتي لا يحتملها كل قلب. ذكر لي أحد الإخوة بأن أحد معارفه والذي وصفه بالعصامي، رأى إحدى البنات في انتظار وسيلة مواصلات تحملها إلى وجهتها، فقرر أن يعمل بمبدأ فضل الظهر، فحمل معه تلك الفتاة في سيارته. وطيلة مسافة المشوار لم تنطق تلك الفتاة بكلمة، بل وكانت ممسكة بطنها بيديها، وكانت المفاجأة عندما نزلت من السيارة أن سقطت على الأرض أمام مدخل إحدى داخليات الطالبات الشهيرة، الأمر الذي أدخل هذا الأخ «العصامي» في «جرجرة» وتحريات. وبعد الكشف الطبي على تلك الطالبة «المسكينة» اتضح أنها لم تتناول طعاماً منذ ثلاثة أيام!!! بالتأكيد فإن هذه القصة الحقيقة مليئة بالدروس وربما يتناسى المرء جوع هذه العصامية ويتذكر مقولة «تجوع الحرة ولا تأكل من ثديها». ولكن الدرس المهم هنا هو الوضع المعيشي السيئ الذي يجعل طالبة تجوع لمدة ثلاثة أيام، وبهذه الحالة هي نموذج «كذرة» من الحالات التي تمر على الكثيرين منا، نقرأ عنها في الصحف ونجدها في الطرقات وفي المساجد. فما يندر أن يصلي أحد في مسجد من مساجد العاصمة ولا يجد أحد المصلين أو أكثر ينشدون المساعدة من إخوتهم في المسجد. وكم من مريض عجز أهله عن توفير الدواء له، وكم تلميذ طرد من المدرسة بسبب الرسوم، وكم موظف مطالب من صاحب البقالة أو بائع الحليب، وكم شخص طرد من منزل الإيجار، وكم امرأة طلقت بسبب العسر، وكم طالبة انحرفت بسبب توفير رسوم الدراسة التي عجز أهلها عن توفيرها؟!. وكما قالت القيادية سعاد الفاتح في المجلس الوطني تعقيباً على بيان وزير المالية أمام البرلمان «الشعب تعبان». بالتأكيد فإن الشعب تعبان وإذا كان د.محمد يوسف أمين عام ديوان الزكاة قد ذكر بإن عدد مستحقي الزكاة 8 ملايين نسمة. وأن عدد الأسر الفقيرة مليون و80 ألف شخص، فإن الواقع الملموس يقول إن عدد الفقراء في السودان أكثر من ذلك بكثير. ولا نقول هنا الفقر حسب مقياس الأممالمتحدة، لأن ذلك سوف يجعل 90% من الشعب السوداني فقيراً. وبالتأكيد فإن هناك أسباباً كثيرة للفقر. لكن الشيء الذي يحتاج «لفهامة» لماذا فشلت الحكومة في إعطاء بصيص أمل لمحاربة الفقر؟!. وسوف نظل نكرر الحسرة على خيرات البلد المدفونة والظاهرة على الأرض، كيف عجزت الحكومة طيلة السنوات الماضية في الاستفادة منها؟، وإذا كانت القيادات تقول بأنهم يتوقعون فصل الجنوب منذ توقيع نيفاشا، فلماذا لم يستفد من البترول في تحريك عجلة التنمية وبدلاً أن يصبح نعمة عندنا تحول البترول إلى نقمة! انشغلنا به عن الزراعة وعن الثروة الحيوانية. دول أصغر من العاصمة «تشرب» العالم من الألبان ومنتجاتها. ودول أخرى يعتمد اقتصادها على تصدير الزهور، ودول أخرى احتكرت الصبار الذي يدخل في مواد التجميل وكغذاء وفي محاربة التصحر ولا يحتاج إلى كبير عناء. والسؤال هنا، لماذا فشلنا في جذب الاستثمارات بالصورة المطلوبة؟ فإذا كانت الدول العربية النفطية قد خسرت 350 مليار دولار نتيجة للأزمة المالية العالمية، وهناك صناديق سيادة خليجية خسرت مليارات الدولارات نتيجة لتلك الأزمة، بل وفلوس بعض العرب لا يعرفون أين يضعونها فيبذرونها في الطرب واللهو. إحدى الإمارات العربية دفعت 2 مليون جنيه استرليني لمغنية تدعى (كيلي مينوغ) مقابل أن تغني في حفل افتتاح منتج «النخيل» في تلك الإمارة. والوليد بن طلال أحد الأثرياء العرب اشترى طائرة قصراً وهي الوحيدة في العالم بمبلغ قارب 300 مليون دولار. قد يقول قائل بأن هؤلاء يهمهم الطرب أكثر من أي شيء آخر غير أن هؤلاء أيضاً يحبون زيادة أموالهم، والآن هناك فرصة جديدة للدعوة لإعادة فكرة ما كان يعرف بالجمهوريات الثلاث وهي السودان ومصر وليبيا ليتكامل رأس المال والعمالة مع الأرض والمياه. وتبقى الكلمات: رغم أن الفقر ظاهرة أصبحت عالمية وأن أسبابها تختلف من دولة إلى أخرى، غير أننا في السودان كان من المفترض أن نكون سلة غذاء لهؤلاء الجوعى. وإذا كانت الحكومات «الوطنية» المتعاقبة فشلت في إطعام الإنسان السوداني، فإن الواجب الآن أن نبحث عن مخارج أخرى وبأن يكون السعي لإخراج الشعب من حالة الفقر، يشارك فيه كل الخبراء بمختلف اتجاهاتهم بمؤتمر علمي غير مسيس وأن تعترف الجهات الرسمية بفشلها وعجزها في محاربة الفقر. فيكفينا سياسة ويكفينا دعاية