قبول الحكومة لقرار مجلس الأمن الدولي رقم (1593) رهن السيادة الوطنيّة للبلاد للمنظمة الدوليّة، ممّا مكّنها من إحالة قضيّة دارفور إلى المحكمة الجنائيّة الدولية التي تُعتبر آليّة جديدة من آليّات النظام العالمي الجديد التي يعتمد عليها في كسر الإرادة السياسيّة لكل الدول المارقة والخارجة عن طوعه وغير المنضوية تحت لوائه، ومن هذه الزواية يمكنني القول أن المحكمة الجنائية الدولية سوف تصبح وسيلة ضغط وسيفاً مسلطاً على رقابنا لفترة طويلة جداً من الزمن، حتى تستمر حرب الاستنزاف التي انطلقت شرارتها الأولى في 18 أغسطس 1955م بتوريت وتمدّدت إلى جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان وإلى دارفور، التي قادتنا إلى نفق المحكمة الجنائيّة الدوليّة المظلم الذي لا ندري إلى أين يقودنا؟! ما يدعوني للقول بأن سيناريو المحكمة الجنائية الدولية هو عبارة عن حرب استنزاف جديدة هو أنّه متى ما كانت هنالك مفاوضات جارية لتحقيق السلام بالبلاد فإن هذه المحكمة تمارس ضغوطها على حركات التمرُّد بإرسالها إشارات خاطئة لمنع هذه الحركات من الوصول إلى اتفاق سلام مع الحكومة، وكذلك الحال بالنسبة للإدارة الأمريكيّة التي تتزامن تهديداتها بفرض المزيد من العقوبات على السودان مع بداية كل مفاوضات للسلام، والغرض من كل ذلك هو استمرار حرب الاستنزاف هذه، ولإرباك الحكومة وشغلها عن الاستمرار في استغلال ثروات البلاد وتفجير طاقات الأمة، وهكذا أصبحت حكومتنا تصنع الأزمة وتفشل في إدارتها. إن سياسة (المحكمة الجنائيّة لاتعنينا) التي تتّبعها الحكومة حاليّاً لاتمثل مخرجاً وحلاً مناسباً لهذه الأزمة المتطورة دوماً، حيث أنها أصبحت تشكل حرب استنزاف جديدة ينفذها النظام العالمي الجديد الذي تقوده الصهيونية العالمية. لقد أشار وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي إلى أن حكومته سوف تسعى على الدوام لإضعاف السودان وجعله مشغولاً بنفسه حتى لايستطيع دعم الأمن القومي العربي، كما أشار إلى ذلك أيضاً أحد اليهود المتنفّذين بالإدارة الأمريكيّة حينما قال: (إن السودان يهدد أمننا القومي ولن نسمح له بالاحتفاظ بأراضيه الواسعة واستغلال ثرواته الهائلة). السودان متى ما استطاع استغلال ثرواته وموارده الضخمة فإنه سوف يصبح بديلاً غذائياً للولايات المتحدةالأمريكية بالمنطقة العربية الأفريقية وربما يصبح سلة غذاء للعالم، مما يفقد الولاياتالمتحدةالأمريكية السيطرة والهيمنة على مناطق نفوذها بالقارة الأفريقية والأمة العربية ومنطقة الشرق الأوسط الغنية بالبترول ومنطقة القرن الأفريقي ذات الموقع الاستراتيجي ومنطقة البحيرات العظمى الغنيّة بالمعادن النفيسة واليورانيوم والبترول، ومن هذه الزاوية أصبح السودان مسرحاً لصراعات الدول العظمى ومسرحاً لحرب المصالح والاستخبارات الأجنبية. حرب الاستنزاف تعتبر حرباً اقتصادية القصد منها تدمير الاقتصاد القومي للدولة المستهدفة حتى لاتستطيع الوقوف على رجليها، ولهذا فإننا نجد أن كل دول العالم تسعى لحسم هذه الحرب المدمرة للاقتصاد في أقصر وقت ممكن، وخير مثال على ذلك ما قاله الرئيس مليس زيناوي: (لقد صبرنا على حربنا الحدودية مع أريتريا لمدة عام كامل ولكننا لا يمكن أن نصبر عليها عاماً آخر حتى لا تتحول إلى حرب استنزاف دائمة لمواردنا). ولو تصرفت كل حكوماتنا الوطنية المتعاقبة مع الحرب الأهلية في الجنوب بمثل ما تصرف به الرئيس مليس زيناوي في حربه الحدودية مع أريتريا لما استمرت حرب الاستنزاف بجنوب البلاد لأكثر من خمسين عاماً. وحتى لا تصبح المحكمة الجنائية الدولية حرب استنزاف أخرى جديدة يجب علينا مواجهتها بكل ما نملك من أسلحة، لأن سياسة دفن الرؤوس في الرمال تزيد الطين بلّة ولاتجدي ولاتنفع. لقد اتفق كل الخبراء والمفكرين السودانيين والأجانب على أن قرارات هذه المحكمة سياسية وليست قانونية، وهذا يحتم علينا مواجهتها سياسياً ودبلوماسياً، وأن لانغفل الجوانب القانونية حتى تتم تعريتها وكشف حقيقتها للعالم أجمع، كذلك يجب علينا أن لا نلجأ للمواجهة النمطية والتقليدية، ولابد من اتباع أساليب علمية مبتكرة يشارك فيها خبراء دوليون من أصدقاء السودان، لابد أن تقودنا خطة المواجهة للانتقال من مرحلة الدفاع للهجوم. ما أرمي إليه ليس بمستحيل لأمة أخذت تنتهج التخطيط الاستراتيجي وتتحدث عن الحكومة الإلكترونية، كذلك إن هذا المنعطف الخطير الذي تمر به بلادنا اليوم يتطلب منا تكوين جبهة وطنية عريضة تتناسى فيها كل أحزاب المعارضة والحكومة مراراتها وتستشعر مسؤوليتها التاريخية في الحفاظ على وحدة البلاد، وأن تقوم بتقديم الكثير من التنازلات وصولاً لهذه الغاية القومية العليا، وعلى الحكومة أن تبادر في هذا الشأن، وأن تتذكر بأن التاريخ لايرحم لأنها المسؤولة أولاً وأخيراً عن وحدة البلاد وأمنها واستقرارها، كذلك علينا السعي الجاد عن طريق الحوار الاستراتيجي مع أصدقائنا في مجلس الأمن الدولي خاصة روسيا والصين التي تملك حق «الفيتو» لإقناعها بعرقلة أي قرار تسعى الولاياتالمتحدة الأمريكيّة لتمريره في ما يختص بالمحكمة الجنائية الدولية ضد السودان، كذلك لا بد من الاستمرار في كل مشروعات التنمية المخطط لها، مع التوسع في إقامة مشاريع جديدة متى ما توفّرت الإمكانيات المطلوبة لذلك، كذلك لابد من الاستمرار في تنمية القدرات الدفاعية للدولة عن طريق عقد تحالفات استراتيجية طويلة المدى مع الدول الصديقة والشقيقة، كما تبرز أهمية وضرورة معالجة القضايا المصيرية والاستراتيجية للدولة عن طريق البحوث العلمية الموجهة لتحقيق هذا الغرض، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق إنشاء مركز للدراسات الاستراتيجية يضم النخب الوطنية المشهود لها بالكفاءة والخبرة في مجال السياسة الدولية. إن فكرة مراكز الدراسات الاستراتيجية هذه أخذت بها كل الدول المتقدمة، ومركز الدراسات الاستراتيجية الأمريكي خير شاهد على ذلك، وهنا لا ننسى أن اتفاقية نيفاشا هي واحدة من أطفال الأنابيب الذين أنتجهم هذا المركز، ولا أدري لماذا جاء طفل أنابيب نيفاشا مشوهاً بالرغم من اكتمال فترة الحمل، حيث أن المتفاوضين مكثوا بمنتجع نيفاشا أكثر من تسعة أشهر؟! تلك هي عدالة السماء التي انتقمت من بوش الإبن الذي لم تطاله عدالة المحكمة الجنائية الدولية لما ارتكبه من إبادة جماعية على الشعب العراقي وشعب أفغانستان والقبائل الباكستانية الموالية لطالبان. أرى كذلك أهمية إجراء دراسة علمية للنظر في مدى إمكانية انسحاب السودان من الأممالمتحدة، حيث أنني أرى أن عضوية السودان بهذه المنظمة لم تمنعه من استهدافها إياه، بل جعلته المستهدف الأول والوحيد، حيث حاصرته اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً بقراراتها الظالمة وحرمته من كل حقوقه ومساعداته الاقتصادية التي تقدمها المنظمات الإقليمية والدولية، ومساعدات البنك الدولي وقروض صندوق النقد الدولي، وفرضت عليه عزلة إقليمية ودولية يسعى جاهداً للخروج منها. دعونا نبدأ أولاً بتجميد نشاطنا بهذه المنظمة كنوع من الضغط السياسي. إذا نظرنا في التاريخ السياسي المعاصر نجد أن الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها قد طبّقت سياسية العزلة المجيدة التي انكفأت فيها على نفسها وخرجت منها كأكبر دولة اقتصادية لها إمكانيات كبيرة دعمت بها دول الحلفاء ضد دول المحور مما مكنها من تحقيق الانتصار في الحرب العالمية الثانية وفرض شروطها على دول المحور التي قبلتها وهي تلعق جراحها العميقة، كما استطاعت الولايات المتَّحدة الأمريكية أن تلغي نظام عصبة الأمم وأن تقيم على أنقاضه نظام الأممالمتحدة الحالي الذي أصبحت تسيطر عليه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. الكثير من دول العالم فقدت الثقة في نظام الأممالمتحدة الحالي ولديها الرغبة الأكيدة في إقامة نظام عالمي جديد بديلاً له يحقق الأمن والسلم الدولييْن، وإذا ما بادر السودان بذلك فسوف يكون له قصب السبق في هذا المجال. السودان عاش بدون الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تقود النظام العالمي الجديد طيلة فترة الحصار المفروض عليه بواسطة المنظمة الدولية، وحقق نجاحات باهرة، حيث تمكن من استخراج البترول وبناء السدود وزيادة الطاقة الكهربائية وبناء العديد من الجامعات الجديدة، كما قام بثورة في مجال الصحة بإنشاء الكثير من المستشفيات الجديدة وقام باستخراج الذهب وصناعة الطائرات، كما استطاع ربط معظم البلاد بالطرق المسفلتة والمطارات والمهابط... إلخ، كل هذا تم بدون أيّة مساعدات أمريكيّة. وللذين يتحدثون عن أن قرارات المحكمة الجنائية الدولية ستحد من تحركات رئيس الجمهورية الخارجية، أقول لقد تحرك رئيس الجمهورية كثيراً بما فيه الكفاية، وتقريباً تمكن من زيارة معظم دول العالم، كما أن قرارات المحكمة الجنائية لم تمنعه من مواصلة زياراته الخارجية، ويكفيه ما قام به من زيارات، وقد حان الوقت ليكون في استراحة محارب، لا يضع سلاحاً بل للاستعداد لمواجهة المشروع الصهيوني العالمي الديناميكي الذي تقوده الصهيونية العالمية للسيطرة على موارد السودان الضخمة والاستفادة من موقعه الجيوبولتيكي المتميز. كثيرٌ من رؤساء دول العالم لايحبذون الخروج من بلادهم، بل يوفدون من يمثّلهم للمحافل الدولية والإقليمية، ولم يمنعهم عدم خروجهم من أن يحققوا الأمن والاستقرار والرفاهية لشعوبهم. السودان لديه الكثير من أوراق الضغط التي يمكن أن يلعب بها، وموقعه الجيوبولتيكي المتميز الذي تمت الإشارة إليه أعلاه يعتبر الكرت الرابح والسلاح المناسب لو تم استغلاله بذكاء. العالم اليوم يسيَّره علم «الجيوبولتكس»، هذا العلم القديم المتجدد، الذي ارتبط بالغزو الخارجي والهيمنة والسيطرة على مناطق النفوذ والاهتمامات المستقبلية والسيطرة على المواقع الحيوية والاستراتيجية في العالم كالممرات المائية الدولية والمضائق وقنوات العبور للتجارة الدولية. لقد سُمي هذا العِلم علم الملوك والرؤساء، ولهذا نجده قد أصبح محصوراً في نطاق ضيق جداً. إن التعريف المبسط لهذا العلم هو تأثير موقع الدولة على سياستها الخارجية، والمثال الحي لذلك دولة إسرائيل التي أثّر موقعها في سياستها الخارجية حيث أصبحت دولة عدوانية تتوسع في أراضي جيرانها من الدول العربية وتتمسك ببعض المواقع الحيوية التي تراها مناسبة لتحقيق الأمن الإسرائيلي، وخير مثال لذلك تمسكها باحتلال هضبة الجولان. قد لايدري كثير من الناس أن السبب المباشر لحرب الخليج الأولى كان نابعاً من تأثير موقع العراق على سياستها الخارجية، حيث أن صدام حسن - رحمه الله - كان غير راضٍ عن اتفاقية القاهرة التي قام هو شخصياً بتوقيعها، وقد نصّت تلك الاتفاقية على تقسيم شط العرب مناصفة بين العراق وإيران. لقد رأى صدام حسين أن نصيب العراق الذي نصّت عليه هذه الاتفاقية لايتناسب مع إمكانياته الاقتصادية الكبيرة وقدراته العسكرية وطموحاته السياسية والدور الذي يريد أن يقوم به في مجال التجارة الدولية، لذا فقد قرر أن يقوم بالهجوم على إيران بقصد السيطرة الكاملة على شط العرب. أمّا السبب المباشر لحرب الخليج الثانية فقد كان ناجماً عن نشوة النصر الذي حققه في حربه الأولى مع إيران، حيث قام باستعراض جيشه الذي بناه في احتفال كبير أقامه بمناسبة تحرير الفاو، وقد وُصف الجيش العرقي بعد هذا الاستعراض الكبير بأنّه رابع جيش في العالم، ويعني ذلك أنه قد تفوق على دول عظمى من الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن، ومن هنا بدأ المخطط الأمريكي لتدمير هذا الجيش الجرار الذي سوف يهدد المصالح الأمريكية بالمنطقة العربية ويهدد الأمن الإسرائيلي، كما يهدد أمن حلفائها من الدول الغربية، هذا بالإضافة إلى أنه سوف يسبب خنقاً استراتيجياً للولايات المتحدةالأمريكية وحلفائها إذا ما تمكن من السيطرة على منطقة الخليج الغنية بالبترول وعلى الممرات المائية الدولية التي تمر عبرها التجارة الدولية، ومن هنا بدأت فكرة حرب الخليج الثانية، حيث قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية بجر العراق لدخول الكويت، وبعدها حدث ما حدث، وهو معروف للجميع. أما الحل الناجع والسريع الذي أراه مناسباً للمخطط الشيطاني للمحكمة الجنائية الدولية فإنه يتمثل في الإسراع بمعالجة قضية دارفور اليوم قبل الغد عن طريق تحقيق كل المطالب التي تم الاتفاق عليها من خلال مؤتمر أهل السودان الذي عُقد بكنانة لمعالجة قضية دارفور، لا شك أن نجاح هذا الحل يتطلب تهيئة موقف محلي وموقف إقليمي وموقف دولي داعم ومساند له. وختاماً أسأل الله أن يوفّقنا جميعاً حكومةً ومعارضةً لبناء الدولة العصرية الآمنة والمستقرة عن طريق الاعتراف بالآخر، وأن يهدينا لمعالجة قضايانا الداخلية بأسس علمية ومنهجية بعيداً عن التحديدات والعنتريات التي لاتجدي ولاتنفع، وبالله التوفيق. ------- زمالة أكاديمية نميري العسكرية