{ كان من اللافت جداً ظاهرة (التحوُّّل المفاجئ والكبير) في تغطية قناة الجزيرة لفعاليات (التوقيع الإطاري) بين الحكومة وحركة العدل والمساواة، وربما كانت المرة الوحيدة التي تتخلّى فيها قناة الجزيرة عن ثقافة (الإتجاه المعاكس) في قضايا السودان، وتتحلّى فيها بقدر معتبر من الإيجابية. فأدبيات (الرأي.. والرأي الآخر) التي تُطبّق بحزم في أزمات السودان، بدأت دائماً كثقافة (المديدة حرّقتني) التي لم تزد أزماتنا إلا تأزُّماً، وبدأت الجزيرة كما لو أنها تستدرك مؤخراً وبعد فوات الأوان، على أنها كانت واحدة من أدوات إشعال هذا الحريق.. بوعي أو بلا وعي.. بقصد أو بلا قصد.. هذا متروك للتاريخ! وبدت كما لو أنها في تلك الليلة (تكفِّر عن بعض سيئاتها)، فكثير من هذه الحركات وهؤلاء الأبطال ما كان ليسمع بهم أحد لو لا قناة الجزيرة التي لها مراسلون في كل أركان الدنيا، وأصدقكم القول إن أغلب هذه الحركات لم يكن لها نشاط إلا في قناة الجزيرة، وحتى نكون أكثر إنصافاً، فنضيف.. (في قناة الجزيرة وقنوات الإنترنت)، لقد تبارت برامج قناة الجزيرة، (أكثر من رأي، الإتجاه المعاكس، ما وراء الخبر)، في تقديم (الحركات.. والحركات المضادة) وذلك على مدى سنين الأزمة، ولم يخطر ببالها يوماً أنها بهذه الثقافة تزيد من جراحاتنا، وتوسع من فتقها وتُصْعب من مهمة الراتق، ولم يخطر ببالها أنها بثقافة تقديم هؤلاء الثوار كما لو أنهم أبطال، يزيد من احتدام الصراع ويغري الكثيرين لهكذا بطولة، حتى أضحت الحركات المسلجة في (مونديال الدوحة) ما يقارب الثلاثين حركة!. { وأذكر مرة أني كتبت مقالاً (بأن قناة الجزيرة لم تكن محايدة في طرح قضايانا)، واستشهدت بواقعة معينة، حيث وفرّت القناة بطلاً ثائراً في استديوهاتها، وفي المقابل في (الإتجاه المعاكس) لم توفر مسؤولاً حكومياً حتى تستقيم المعادلة، فردّ عليّ يومها الأخ الأستاذ المسلمي الكباشي مدير مكتب القناة بالخرطوم عبر الهاتف، بأن هواتف الحكومة (لا يمكن الوصول إليها)، ولمّا ذكرت له أن الناطق الرسمي كمال عبيد يقول دائماً إن هاتفه يكون مفتوحاً أمام كل القنوات، قال يومها الأخ الكباشي (إن الوزير كمال عبيد لقد تم استهلاكه)! فما بال أولئك الثوار لا يستهلكون؟!. { على أيّة حال، لقد خدم هذا التحوُّل المفاجئ قضية (التوقيع الإطاري)، ولو أن هذه القناة مارست (ضلالها القديم) ونزوعها السقيم، وراحت في فتح الفرص لبعض المتفلِّتين والمغامرين (والباحثين عن الألقاب والأضواء والبطولات) لما أمكن لملمة هذه الحركات، بل هذا موقف يرقى لتكريم قناة الجزيرة وربما لأول مرة، أنها كانت أحد صُنّاع هذا (الإتفاق الإطاري)، وأنها تستحق وشاحات وشهادات فعاليات هذا الإنجاز. { ولكن هذا لا يلغي التساؤل المشروع، ما الذي حدث لهذه القناة، أن تتخلى في لحظة حكمة عن (برمجة صراع الديوك)؟، هنالك عدة احتمالات، أولها ربما كانت هنالك توجيهات مباشرة من سمو الأمير بأن تساعد قناة الجزيرة دولة قطر في لملمة هذه الأزمة. والاحتمال الأخير والخطير، أن هذا الذي حدث هو توجُّه عالمي، بأن ما يعرف ب(المجتمع الدولي) الذي هو في هذه الحالة يتجسد في (الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا)، قد ذهبوا في لملمة هذه الأزمة، وأن الجزيرة هي واحدة من طلائع وأدوات هذا المجتمع الدولي، والخطورة في هذه الحالة في أن (المجتمع الدولي) لا يفعل ذلك لصالح النازحين والمشردين، وإنما يلملم هذه الأزمة ليذهب إلى أزمة أخرى، وقد حدث هذا في أزمة الجنوب، فلم تتنفس الصعداء بعد، ونحن نلملم أشياءنا وأشلاءنا ونرحل عن نيفاشا، حتى فاجأنا المجتمع الدولي بأنه قد أعد لنا (وليمة هائلة) بإقليم دارفور. المجتمع الدولي ذاته الذي ساعدنا في عبور مستنقعات نيفاشا، وأرجو والحالة هذه ألا يصدُق زعمي، بأن (المجتمع الدولي) يساعدنا في (مونديال الدوحة) لأجل العبور إلى أزمة أخرى.. الله وحده أعلم بها..