لم يلاحظ أحد من المشرفين على الملجأ ذلك التوتر الذي انتاب تلك الفتاة التي بلغت عمرها «10» سنوات فهي غيرها لا تعرف لها أباً أو أماً، وكل ما تعرفه أنها تدفع ثمن خطيئتهما في الحرام لتنجبها وترميها بالشارع العام ليلتقطها المارة فتنشأ في دار الملجأ. وكان يبدو أن تلك الفتاة تفكر في أمر تنتظر قدوم الليل بفارغ الصبر لتتسلق الحائط وتهرب من ذلك الملجأ فهي لم تكن مسرورة بالإقامة فيه وتكره جداً غلظة أولئك المشرفات ومشاكسات زميلاتها اللقيطات. فما أن حل المساء حتى رمت بجسدها من أعلى الحائط لتبدأ في الركض إلى نقطة سوداء حتى تلاشت تماماً فأخذت تجوب الشوارع لا تعرف أين تذهب، وعندما صرعها الجوع طرقت أول باب لتفتح لها سيدة جزعت عندما وقعت تحت قدميها فحملتها إلى الغرفة وأحضرت لها كوباً من العصير تناولته بطرقة عرفت السيدة أنها جائعة فأعدت لها الطعام وسألتها عن نفسها ومن أين أتت؟ فلم تحاول «ن» الكذب فردت عليها: هربت من الملجأ، وهي لا تعرف والديها. فزفت لها السيدة البشرى بأنها تعيش وحيدة في ذلك المنزل بعد أن هجرها زوجها منذ سنوات فاتخذتها ابنة لتعيش معها. فلم تنسَ «ن» ذلك اليوم الذي نامت فيه لأول مرة مطمئنة فأخذت تساعد السيدة في عمل الخبز البلدي وبيعه بالسوق واستطاعت أن تكسب ثقتها لنشاطها ومثابرتها فأخذت تعطف عليها ودخلت نوعاً جديداً من الحياة أحبته بسرعة، ولكن ما كان يقلقها أن خبر هروبها من الملجأ وحقيقة أنها ابنة سفاح قد ذاع في الحي فأخذ الصبية يتفادون اللعب معها ومرت عدة سنوات وهي في حضن السيدة ونضجت الفتاة وصارت من أجمل بنات الحي حتى جاء ذلك اليوم الذي طُرق باب المنزل في ساعة متأخرة من الليل، انتفض للطرقات جسد «ن» الممشوق وغطى وجهها شعرها السرمدي وهي تنظر ناحية الباب الذي كانت تتجه إليه السيدة ببطء وعندما فتحته وجدته زوجها المختفي، فكان ذلك سبباً في أن تغادر المنزل بعد أن رفض الزوج أن تقيم معهم «لقيطة» فجمعت حاجياتها وخرجت ولا تدري أين تذهب. وفجأة تذكرت «هشام» ذلك الشاب الوسيم والذي كان كثيراً ما يغازلها فقد كان موظفاً يملك المال. ذهبت إليه ليساعدها ولم تنسَ أن تعترف له بأنه يحبها وهي أيضاً تحبه فهو الوحيد الذي يمكن أن ينقذها من حالة التشرد خاصة وأنه يقيم في المدينة بمفرده، فهو شاب جاء قادماً من الشمال ليعمل في محلج للأقطان وكان متواضعاً وطيباً فاقترح عليها أن تأتي لتقيم معه في منزل يستأجره على أطراف الحي ريثما يرتب أمر زواجهما، فهو لا يعرف أسرة يمكن أن يتركها معها، وطمأنها بأن في المنزل غرفتين ستكون في واحدة وهو في الأخرى لأسبوع واحد سيغادر بعدها ليخبر اسرته بأمر زواجه. فصدقته المسكينة فلم يكن هشام سوى ذئب بشري استطاع أن يسيطر عليها وهي مخدوعة. وفعلاً نجح مخططه بعد أن أقامت معه فأخذ يعاشرها كزوجته وهي أحست بأنها استقرت فوجدت المأوى والمأكل والمشرب غير أنها كانت تنتفض في كل مرة لتذكره بزواجهما. وعندما بدأت تلح عليه كشف وجهه الحقيقي وتوقف وعده الكاذب قائلاً: أهلي لن يقبلوا أن أتزوج لقيطة ولن أقبل لنفسي ذلك، إما أن نعيش كما نحن أو نفترق. فاختفت من أمامه ودموعها تبلل ملابسها فها هو الشاب الذي أحبته يغدر بها، فعقدت العزم بأن تفارقه لذا تركته يذهب لعمله فجمعت أغراضها وخرجت، وعندما عاد جن جنونه فخرج يبحث عنها في الطرقات. وكانت نفسها حائرة وهي تمسك بحقيبتها وتلتفت يميناً ويساراً فلم تجد سوى أن تعود للمنزل فلم يعد لها مأوى غيره. وما أن قابلها حتى فتح لها ذراعيه ليحتضنها وتسبقه كلمات الاعتذار وتمتمات الحب، ولكنها كانت منهكة جلست على أقرب سرير متهالك وآثرت الصمت والتحديق في عينيه وهو يتكلم ولا تجيب على تساؤلاته، وعندما أغاظته قام بالإساءة إليها بإنها فاجرة فبصقت في وجهه لتزيد من غليانه فصفعها على وجهها وواصل في ضربها، ورأت سكيناً على المنضدة أخذتها وسددت بها طعنة إلى صدره، حاول أن يتماسك ولكنه خر مغشياً عليه لتسيل دماؤه وتملأ الغرفة ثم أسلم الروح، لتجلس قرب جثته وهي تبكي وتفكر فيما تفعله، فلم تجد أمامها إلا أن تسلم نفسها للشرطة ليسرع رجال البوليس لمكان الحادث ويرفعوا الجثة للمشرحة ويدون بلاغ جنائي في مواجهة «ن» تحت المادة «251» من قانون العقوبات السوداني ليتم تقديمها أمام محكمة حلفاالجديدة التي قضت عليها بالسجن «3» سنوات بعد أن رأت المحكمة بأنها تستفيد من الاستفزاز المتراكم والألفاظ البذيئة التي كان ينعتها بها المرحوم. وبدأ القاضي قراره بمقدمة نثرية قال فيها «نشأت بين أترابها لقيطة تتقاذفها الطرقات، وعندما كبرت أصبحت حسناء المدينة، بادلها شاب وسيم الغرام وقضت معه أحلى الليالي فرأت فيه شاطئ الأمان، ومع مرور الأيام بدأ يشك في سلوكها بلا مبرر وأصبح يشتمها وينعتها بأنها مومس ويعيرها ويضربها فصممت على الانتقام منه ومن المجتمع في شخصيه فطعنته في صدره بخنجر فمات». وعندما نطق بحكمه صاح حضور الجلسة فرحاً فقد تعاطف معها الكثيرون.