طوال خمسين عاماً ظلّ المسرح القومي بأم درمان موجهاً إجتماعياً وسياسياً ورياضياً لفكر الإنسان السوداني، قبل أن يكون مؤسسة فنية تعليمية رافدة للدراما بشقيها الكوميدي والتراجيدي. هذه المسيرة الطويلة قادها رموز المسرح في السودان بالفطرة والموهبة قبل أن تُرفع راية الدراما الممنهجة في سماء الخرطوم في سبعينيات القرن الماضي بافتتاح معهد الموسيقى والمسرح الذي أصبح كلية للموسيقى والدراما بجامعة السودان. بداية ببابكر بدري، إبراهيم العبادي، خالد أبو الروس، الفاضل سعيد، حسن عبد المجيد، حمدنا الله عبد القادر، الفكي عبد الرحمن، آسيا عبد الماجد، أبو العباس محمد طاهر، أحمد عاطف، يسن عبد القادر، محمود سراج (أبوقبورة)، عثمان حميدة (تور الجر)، فايزة عمسيب، بلقيس عوض، تحيّة زروق، ثم جيل الوسط وجيل الشباب من الذين نالوا الدراسات الأكاديمية وحملوا أرفع الدرجات العلمية في الدراما وفنونها الراقية. غير أن الدولة وقفت (كحمار الشيخ في العقبة) في كل ما يتصل بالدراما السودانية خاصة بعد أن كشف الدكتور إسماعيل الحاج موسى وزير الثقافة الأسبق النوايا الحكومية المبيّتة تجاه إقصاء الفن بكل ضروبه منذ الإستقلال، بقوله (إن الثقافة لم تكن في يوم من الأيام من أولويات الدولة السودانية)، وأشار إلى أن أحد وزراء المالية في هذا العهد رفض فصل الثقافة في كيان مستقل وقال بالحرف الواحد: (ما عندي قروش للغنا والرقيص). وكل أهل السودان يصفون الممثل السوداني بالفاشل وقليل العطاء والموهبة وصاحب الأعمال المخجلة مقارنة بباقي الدول العربية والإفريقية، مثل جمهورية مصر العربية التي تستثمر في الدراما وفنونها منذ أكثر من قرن، فضلاً عنبعض البلدان الاخري والتي عندما عرف السودان المسرح كانت غائبة، وثلثي الدول العربية والإفريقية كانت مستعمرة، إلا أن ولاة أمورنا بعقلياتهم (المتحجرة) رأوا أن الفنون هي نوع من العبث الصبياني حتى طلابها (موسيقى دراما فنون جميلة رياضة) يعتبرون من الذين دخلوا كلية (لعب ساكت) حتى وقت قريب. ويرى بعض المختصين أن المجتمع السوداني ظلّ، حتى مجيئ حكومة مايو، مجتمعاً بدائياً لا يعترف بالفنون عدا الغناء الذي افتتح طريقه الشائك عمالقة الحقيبة بعد أن نالوا الذم والتأنيب منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي وحتى الإستقلال ونالوا لقب (صِيّاع) بامتياز، غير أن الدراما ظلت مغيّبة رغم تجارب أولئك الأفذاذ الذين سبق ذكرهم لأنهم دون دعم الدولة لم يوصلوها إلى بر الأمان ومازال الاجحاف الحكومي تجاه الدراما مستمراً حتى الممثل هذا الرائع الذي يحمل العِلْم والمعرفة ويعمل من أجل حل قضايا المجتمع الشائكة والمعقّدة جداً نجده أفقر الناس رغم جهده الذي لا يحس به أحد. وأغبى السياسيين في بلادنا وإن كان لا (يفك الخط) يُضرب له النحاس وتسير بذكره الرُكبان!! وفي انتخابات 1986م وفي دائرة أم درمانية صوّت الناس لمرشح تبيّن أنه (أمي) حسب إفادات أعضاء حملته الإنتخابية. ولكنه فاز وظلت الدائرة ساهرة حتى الصباح بفوزه الميمون. التحية للمسرح القومي ولكل الدراميين في بلادي وهم يقبضون على الجمر من أجل تعريف (حكومة السودان) بأن الدراما المدعومة والمحترمة يُمكنها في موسم واحد أن تعيد التعايش السلمي لدارفور وكل السودان دون إطلاق رصاصة واحدة.