أدى الخير الذي طواه الموت قبل يومين في مدينته المفضّلة كوستي عن عمر شارف المائة، أدى فريضة الحج مراراً.. ولم يفطر شهر رمضان قط، وكان يصلي الأوقات الخمسة في مواعيدها.. وكان كريماً يحب الخير نظيفاً منظماً يحب الناس ولا يخطر على باله أبداً أن يؤذي أحداً. وكان يحب الدنيا.. وليس هناك تناقضاً بين حب الدنيا والتمسك بأهداب الدين، وكأن شعاره الذي لم يقله هو «وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا». ولقد كان منذ صباه يعشق العمل لكنه كان يعرف (إن المُنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، وعليه فإذا كان العمل واجباً فإن الإجازة أيضاً واجبة. ولذلك فإنه كان يحرص عليها ويستمتع بها داخل السودان وخارجه. وكنت وقتها خمسينيات وستينيات القرن الماضي نشأت في بيت يملكه هو وشقيقه المرحوم مبارك ولم أشعر قط أن أيّاً منهما يميّز أبناءه عليّ.. وكان أصحاب الخير في المنطقة القديمة يسمونني (ود الخير) فقد كان الوقت الذي أمضيته في دكانه المُطل على الإستاد أو دار الرياضة كما كنا نسميها في ذلك الوقت، أكثر من الوقت الذي أمضيه في زريبة العيش مع عم نصر. ومع الخير وأولاده ذهبت إلى السينما لأول مرة وكان برنامجاً أسبوعياً أن يأخذنا في عربته كل جمعة إلى السينما لنشهد فيلماً عربياً. ومعه شاهدت أول مباراة في كرة القدم أيام كانت تُقام المباريات في مكان (شل) وبنك السودان. ومعه ركبت الدرجة الأولى بالقطار لأول مرة في رحلة رتّبها لنا للأبيض نهاية الخمسينيات. لقد كان حضوره في طفولتنا وصبانا كثيفاً.. لطيفاً آسراً راقياً.. وكان تأثيره علينا كبيراً ومثله كان احترامنا ومحبتنا له.. وكنا نستمتع بحكاياته ونوادره وما أكثرها!. وكما قلت فإن أهل المدينة على اختلاف أعمارهم ومكاناتهم أحبوه حباً مسرفاً.. وقلت مرة لو أنه في الماضي رشّح نفسه في الانتخابات لفاز.. لا لأن برنامجه هو الأفضل ولكن لأن الناس يحبونه. وقد فاز بدائرة كوستي مرة ابنه الرائد عادل الخير ويرى البعض مع تقديرهم التام لعادل أن عدداً مقدراً من الأصوات ذهبت إليه لأنه ابن الخير. لقد استطاع هذا الانسان البسيط المتواضع أن يصنع اسماً في مدينته.. ولن تنساه. وثمّة نقطة أشعر بضرورة تسجيلها.. فالذين كتبوا عن إستاد كوستي وبنايته لم يتطرّقوا إلى إنارته. ومن المؤكد أن كثيرين ومنهم صديقه الحميم التاج عبد الرازق يعرفون دوره في هذا المشروع. وما أكثر ما يمكن أن يُكتب عن الخير أو حاج الخير وعن المدينة التي اختارها هوية وانتماءً وفضّلها على أم درمان.