ذكرتُ من قبل أنني قد تحوّلت إلى «رجل إعلاني» حيث أصبح الإعلان أهم مناطق اهتماماتي في الصحافة خاصة.. أليست الإعلانات هي روح كل صحيفة.. وصحيفة بلا هذه الروح لابد أن تتوقع حتفها وحتف أنف أبيها!! لقد نذرت قدراتي «الاطِّلاعية» للإعلانات فقط وأصبحت أطوف بنظراتي كل بقاع صفحات صحفنا بحثاً عن إعلان هنا أو هناك.. ولكن لماذا هذا الاعتكاف في صومعة الإعلانات؟ أصدقكم القول بأنه ليست لديّ طموحات أو أطماع في الانفراد بفتح مكتب إعلانات أو اصطياد إعلانات لتغذية صحيفتي بها.. كل ما في الأمر أنني قد أُصبت بفيروس يدعي «الرجل الإعلاني» وها أنا قد تجاوزت منتصف العمر الافتراضي للإنسان في هذا الوطن، وبالرغم من الشعيرات البيضاء التي بدأت تغزو رأسي إلا أنني قد تورطت في قصة حب مع عمر الزهور: «الإعلانات» وأصبحت عاشقاً متيّماً أذوب في دنياها!! إن أيّة صحيفة تقع بين ناظري أبدأ بقراءة إعلاناتها وانتهي بها أيضاً.. أتساءل: هل ضللت الطريق في مسار اطلاعي؟! لعلها بشائر «زهايمر» أو خرف مبكر أو فقدان ذاكرة!! إنني لم أجد ما استدل به على تحديد سعة أفق اطلاعي سوى الإعلانات ولم يبقَ إلا أن أغنّي لها. لقد ظهرت أعراض ذلك الفيروس الإعلاني عليّ حينما لاحظت في إحدى المرات أن جسدي أخذ يتثنى ورأسي يهتز في انسجام مع موعد أي مسلسل يومي في الفضائيات والآهة تخرج من حلقي.. إعلان قبل بداية الحلقة.. و.. آه.. وإعلان بعد مضي ربع الحلقة.. وآه ثم آه.. واعلانات مع منتصف الحلقة.. أنا آه آه.. أنا آه.. آه.. وإعلان بعد نهاية الحلقة.. وتخرج الآهات من حلقي حتى الوصول إلى «نشفان الريق» وحرمنا المصون تحملق في وجهي مذهولة من هذا «البعل الآهي» وآه لو يزيدوا الجرعة الإعلانية في الأخبار!! وحرمنا الغلبانة ليس لها إلا أن تأتي بالمبخر وتصب على جمراته كيس بخور كامل لتوقف تلك «الآهات».. وبالرغم من البخور و«العيون» التي انفجرت إلا أن شيطان تفاصيل «الآهات» لم يتوقف!! { فقد الصحافة الجلل: في مشوار حياتي الصحفي كان من بين الذين لفتوا نظري مهنياً، الأستاذان حسن الرضي ومحيي الدين خليل، حيث كنت الأقرب إليهما من ناحية العمر وعملت معهما في عدد من الصحف ذائعة الصيت آنذاك ومنها: «الرأي الآخر» و«السياسة» و«الحياة».. في هذا المشوار لم أجد شبيهاً لهما في ميقات الحضور.. وكنت أقرب لهما في طقوس الحضور المبكر تلك إذ كنا نأتي إلى الصحف التي عملنا بها من قبل منذ الثامنة صباحاً، وهذا يعد وقتاً مبكراً لحضور أي صحفي لمؤسسته الصحفية، ووفقاً لهذا الحضور المبكر كان كل منا يتفقّد الآخر في مكتبه.. كان كل منهما: الرضي وخليل يتميز بروح طفولية عذبة في انفعالهما فرحاً أو غضباً.. كانا يمارسان الحياة في بساطة وبلا أي تعقيد.. مخلصان في عشقهما للصحافة، بلا منٍّ أو أذى.. إنهما من الذين يقهرون عتمة الصعاب واليأس بما هو مخضّل في أعماقهما من صفاء. مؤخراً كان لنا شرف الانتماء إلى «الأهرام اليوم»: محيي الدين خليل وشخصي الضعيف، وقد سار فيها معنا مشواراً، سجّل فيه حضوره من خلال «منوعات» عُرف بها منذ أمد طويل وأصبحت بصمة ودمغة خاصة به أو«ماركة مسجلة» لا شبيه لها. حسن الرضي ومحيي الدين خليل ذاكرة أوراق خضراء في شجرة الصحافة السودانية التي احتشد هواهما بها. لقد فقدت صاحبة الجلالة السلطة السودانية الرابعة، برحيلهما، عاشقين لها، ركضا في مدارها بكل عنفوان الحياة.. وأخيراً ترجّلا عن صهوتها، ألا رحم الله حسن الرضي ومحيي الدين خليل بقدر ما شيّدا من جسر محبة في صحافتنا. { قال لخطيبته: أنا ما غنيان ولا عندي مرسيدس وشقة زي صاحبي محمود.. بس أنا بحبك.. خطيبته قالت ليهو: ممكن تعرفني على محمود ؟!