في أعقاب التراجيديا التي أودت بحياة مؤسسها د. جون قرنق دي مابيور على سفح الأماتونج في العام 2005؛ توقع البعض أن تعصف الفاجعة بوحدة الحركة الشعبية لتحرير السودان، التنظيم الذي أُسس في 16 مايو 1983م بهدف إزالة التهميش عن شعوب الأطراف السودانية، وبناء دولة جديدة يتساوى فيها الجميع. إلى حدٍّ ما؛ صدقت التوقعات، إذ انشق القيادي لام أكول أجاوين، بيد أن خروجه لم يؤثرعلى مسيرتها النضالية، لا سيما أن روح مؤسِّسها كانت تهيمن على رؤى القادة الجدد، ومفاصل السلطة السياسية والعسكرية، ناثرة النفوذ التنظيمي الذي اختطه عرّاب الجماعة الذي هيمن على الأضداد المتباينة بين مشروع السودان الجديد والانفصال! الحركة الشعبية؛ ومنذ توقيعها على (نيفاشا) في العام 2005م ظلت دائماً في حالة شدٍّ وجذب وخلافات مستمرة مع شريكها (المؤتمر الوطني) وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بمعارك تنزيل التفاصيل النيفاشية على صلب القوانين المحركة للدولة والمجتمع. غير أن خلافات الحركة لم تقتصر على ساحة الشريك وحده، إذ أن كثيراً من الرؤى وجدت أصواتاً متباينة إزاءها داخل أسوار الحركة نفسها، والخلافات الداخلية في صفوف الحركة أصبحت عملية مداراتها أشبه بمحاولات تغطية الشموس بالغرابيل! أبهى تجليات الصراع يمكن تبيّنها في عملية سحب قيادة الحركة لمرشحها الرئاسي ونائب أمينها العام ياسر سعيد عرمان من السباق الانتخابي، الأمر الذي اعتبره المراقبون بمثابة صفقة سياسية مع شريك براغماتي، موصوف من قبل المراقبين بأنه بارع في إبرام الصفقات وتجسير التسويات! التصريحات المتناقضة لقادة الحركة بشأن مشاركتهم في الانتخابات والمحاولات المستميتة من قبل القطاع الشمالي لادعاء التماسك في جبهة الانتخابات نظر إليها المراقبون على أنها مسألة أقرب إلى الانشقاق، فإفادات الأمين العام باقان أموم ونائبه ياسر عرمان كانت تبدو وكأنها تخرج من ضفة أخرى غير تلك التي يقف على شاطئها رئيس الحركة سلفاكير ميارديت ونائبه مالك عقار! حسناً، ليس جديداً تماماً الحديث عن أن هنالك صراع مجموعات قديم موجود داخل الحركة منذ تأسيسها وحتى الآن، وإذا اعتبرنا أن الذي يحدث حالياًَ في الحركة هو مجرد اختلاف في وجهات النظر داخل القيادة العليا؛ فإن التباين الموجود داخل الحركة بين الوحدويين والانفصاليين في داخلها يبدو هو العنوان الأبرز حالياً، الذي قد ينتهي لسلسلة انشقاقات أخرى على شاكلة تلك التي ابتدرها أكول سابقاً، وما الجدل الذي أثير مؤخراً حول المشاركة في الانتخابات أو الانسحاب منها إلا الجزء البارز من (جبل جليد) الخلاف، وهو الذي أدى إلى عزل الناطق الرسمي باسم الحركة ين ماثيو على خلفية التصريحات التي ظل يردّدها حول موقف الحركة من المشاركة! نظرياً وكخلفية متعلقة بهذا السرد ينبغي التأكيد على أن من بين أهداف الحركة الشعبية؛ وحدة السودان، التي تقوم على حقائق الواقع، فأي وحدة خلافاً لذلك غير قابلة للتطبيق. وقد تحدث مؤسسها قرنق عن ذلك خلال ندوة القاهرة التي ألقاها في العام 1997م بأن الجيش الشعبي هو جيش قومي (حيث يوسف كوة في جبال النوبة ويتكون جيشه من النوبة، وجيش مالك عقار في جنوب النيل الأزرق ويتشكل من أهالي منطقة الأنقسنا، وقد كونت الحركة لواءً اسمه (لواء السودان الجديد) وهو ينسجم تماماً مع وصف البوتقة التي تنصهر فيها كل (قوميات) السودان وكانت فكرته أن يتكون اللواء من فصائل التجمع الوطني التي تحمل السلاح - جيش الأمة، قوات الفتح، قوات التحالف السودانية، قوات البجة، قوات التحالف الفيدرالي وغيرها) التي ستنصهر جميعها في جيش السودان الجديد، وكل هؤلاء سيشاركون في التغيير، فليس هنالك من سيقوم بتحرير الشعب السوداني غير الشعب السوداني نفسه، وأوضح أن رؤيتهم علمية لأنها تقوم على حقائق وهي لا تستند على تهيؤات وتخيّلات أو انتهازية، ولكنها ترتكز على الواقع وهذا هو الطريق إلى الأمام). وقال إن الأمم تتكون نتيجة للتحركات التاريخية للبشر، فالناس يتحركون ويتنقلون لأسباب متعددة ويتحركون هرباً من الاضطهاد الديني، وقال إن الحياة يجب أن تستمر وتتفاعل بين هذه المجموعات البشرية في المجال الاقتصادي وفي المجال الاجتماعي وفي المجال السياسي وفي المجال الروحي، وبمرور الوقت تنشأ رابطة اجتماعية وسياسية بينهم لها خصوصياتها وهذا هو ما حدث في كل مكان في العالم حتى أمريكا، وقال إن مهمتنا وواجبنا أن نخلق سوداناً ننتسب إليه كلنا ورابطة اجتماعية سياسية ننتمي إليها جميعاً وندين لها بالولاء الكامل بغض النظر عن العرق أو الدين أو القبيلة أو الجنسية وحتى تستطيع المرأة أن تسهم بفاعلية، ويضيف: (هذا هو السودان الذي تهدف الحركة إلى إقامته). مناشداً شعب السودان في خطابه أن يعي أن هذا هو اتجاه المستقبل، لكي نصبح أمة عظيمة وشعباً عظيماً يجب أن نسير في هذا الطريق. وفي سياق تعليقه عن أن الحركة الشعبية هي تحالف مجموعات كثيرة لا سيما بعد انقسام عام 1991م مثل (مجموعة الناصر، ومجموعة توريت، ومجموعة قوة دفاع الاستوائية، وأبناء قرنق وأبناء سلفاكير)، وعن أن مجموعة توريت تسعى إلى إقصاء كل المجموعات والاستيلاء على قيادة الحركة الشعبية، بخصوص التقسيم كنّاقد استنطقنا مؤخراً الناطق الرسمي للحركة الشعبية لتحرير السودان (المعزول) ين ماثيو في حوار سابق مع «الأهرام اليوم» إن قرنق لديه أبناء وأول أبنائه هو سلفاكير. وأضاف أن أبناء قرنق هم كل أعضاء الحركة الشعبية بداية من رئيس الحركة الشعبية الحالي، مردفاً أن سلفاكير هو ابن قرنق الأكبر، وأوضح ماثيو أنه لا يوجد ما يسمى بأبناء (فلان وفلان) في الحركة، على حد تعبيره، مؤكداً أنهم تنظيم سياسي ارتضى برنامجاً سياسياً ومنفستو، والجميع يتوجه ويسترشد به وهو منفستو الحركة الشعبية الذي تمت إجازته في مؤتمرها في عام 2008م ولم تختلف قيادات الحركة حوله ونفى ماثيو علمه بوجود ما يسمى بمجموعة توريت أو الناصر بالحركة، وفي ما يخص الوحدة والانفصال أكد ماثيو أن الحركة الشعبية ستظل وحدوية وستظل تنادي بمشروع السودان الجديد وأردف أن الكيفية نتركها للمستقبل، وأضاف: (إذا انفصل الجنوب سنظل نعمل من أجل مشروع السودان الجديد)، قبل أن يستطرد: (ولدينا آليات لذلك، وستظل هناك حركة شعبية في شمال السودان). قوى السودان الجديد كما يشير قائدها ينحدر أغلبهم من سكان (الريف) وهؤلاء تعمل الحركة على تنظيمهم وتسييسهم ليفكروا على نهج السودان الجديد، ويشرح ذلك الأمر بقوله تحتاج كل هذه الأشياء لأن نضعها في الاعتبار عندما نتحدث عن تكوين حركة السودان الجديد السياسية فمثل هذه الحركة لابد أن تلبس عدة (قبعات) وتتقن اللعب وذلك حتى تتقدم إلى الأمام تنظيمياً وحتى تنجح في تطويرالمحتوى السياسي للسودان الجديد نفسه وهذه هي عملية بناء شيء جديد غيرمسبوق فليست هنالك إجابات جاهزة ومعدة سلفاً وقد تكون الإجابات في أذهان السودانيين وتتبلورمن خلال الحوار وستكون مهمة مثل هذا التنظيم هي أن يجمع الأفكار ومن خلال هذا التفعيل سيتعمق مفهوم السودان الجديد. واعتبر أن القوى التي تؤمن بالسودان الجديد حقيقة يمكنها أن تعمل في إطار هذه المظلة الواسعة وتحاول أن تحرك الموقف برمته في اتجاه السودان الجديد فالبعض قد لا يرغب في التحرك في هذا الاتجاه ولكن قوة منطق الموقف قد تكون كافية لتحريكهم وفي بعض الأحيان الناس يتحركون ليس لأنهم يريدون أن يتحركوا ولكن لأن الوضع يدفعهم للتحرك وهذا البعض قد يتحرك وهو يئن لكنه يتحرك على كل حال في اتجاه السودان الجديد. وأشار إلى أن القوى الحديثة هي القوى الرئيسية التي تقود التغيير، وينوه لصعوبة طرح أفكارالسودان الجديد ووحدة السودان في مجتمع (قبلي) حيث تسود أحاسيس مغرقة في المحلية، لكن ذلك يدل ضمناً على أن تداخل الأنظمة ممثلاً في القوى الاجتماعية السياسية سيقود في النهاية إلى تحقيق السودان الجديد، واعتبر أن مستقبل السودان يكمن في اتجاه السودان الجديد ودعا إلى ضم العناصر بعضها إلى بعض وقال إن المادة الخام متوفرة بما في ذلك الأفكار وما نحتاج إليه لكي تلتئم كل هذه المكونات هو اتخاذ خطوة حاسمة. وظل مؤسس الحركة الشعبية د. قرنق يؤكد دوماً بأنهم ليسوا ضد الإسلام ولا يمكن أن يكونوا ضده إذا كانوا يقفون مع وحدة السودان الذي يشكِّل المسلمون غالبية سكانه فمن غير الممكن بأي حال من الأحوال أن يضمروا مشاعر ضد الإسلام لأن ذلك يعني إيذاء أهله وهم الغالبية. ولكن في ظل الصراعات الداخلية التي تشهدها الحركة الشعبية والتباينات التي تظهر في مواقفها دائماً هل سيفلح قادة الحركة الموجودون في دفة قيادتها مع شريكهم الآخر في الحكم حزب المؤتمر الوطني في إزالة ثنائية الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي الزنجي المسيحي، لرحاب أوسع لبناء دولة السودان الجديد التي كان ينشدها مؤسس الفكرة د.جون قرنق وأن يتم ذلك الأمر برضاء شريكي الحكم (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) حتى يظل السودان موحداً بإرادة شعبه؟!