لم يكن عقل المفكر العربي الراحل - منذ أيام قليلة مضت - محمد عابد الجابري؛ منفصلاً عن الواقع العربي، بقدر ما كان جزءاً من تكوينه الإنساني، يكاد لا يستقيم إلا بوجوده. وإن رحلة هذا المفكر الإنساني لم تتوقف عند الأشياء من خلال رصدها وتحليلها، ووضع التصورات عنها، بقدر ما كانت وقفات مشرقة، مضيئة، تسهم في إعادة تشكيل هذه الأشياء، وبالتالي البحث المستمر والدؤوب في بنائها، ومحتواها، من أجل الوقوف عند مصدرها، وحركتها، والإلمام بكل ما تتضمنه من عناصر أسهمت في تكوينها. وحينما نتوجه بعقولنا إلى ما تركه لنا محمد عابد الجابري من إرث إنساني بديع؛ سنُصدَم - أولاً - بالكثير من المفاجآت، التي تشير إلى حنكة هذا المفكر، وقدرته الفائقة على استلهام المدلولات، وقراءة المشاهد، من خلال تفجير الوعي في أي فكرة يطرحها، وتفكيك محتوى الحدث، ليس من خلال رؤية هلامية غامضة، ولكن من خلال الإحساس بالمعنى، والرغبة في استكشاف الرؤية، بأكبر قدر من الصدق، والإخلاص للمفاهيم التي يرتكز ذهنه عليها، ويحاول أن يبعث فيها الحياة. وخاض الجابري تجاربه الفكرية من خلال إيمانه بمفاهيم تخص الثقافة، ليس من خلال رؤية ضيقة تدفع العقل إلى الجمود والكسل، وهي رؤية تُعرِّف الثقافة على أساس كونها تراكمات إنسانية، يتعين علينا الاحتفاظ بها قدر المستطاع في أشكالها التقليدية الأصولية، ولكن تجاربه نبعت من خلال رؤية شاملة ومتحركة للثقافة، تدعو العقل إلى التفكير، وعدم الجمود، أو التوقف عند حالة ثقافية متوارثة، ومن ثم نهضت تصورات الجابري إلى أبعد ما يكون، وأصبحت عنصراً مهماً في كيان الثقافة العربية، وتداعيات لا يمكن الاكتفاء بأشكالها بعيداً عن مضامينها، وعلى هذا الأساس جاء مفهوم الجابري للثقافة على أساس أنها «المركب المتجانس من الذكريات والتطورات والقيم والرموز والمتغيرات والإبداعات، التي تحتفظ بها الجماعة البشرية، بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء». وركَّز الجابري في مسيرته البحثية والفكرية على «العقل الناهض»، الذي يطلق عليه مدخلاً «أبستملوجياً» ذلك المدخل الذي حرص من خلاله على نقد العقل العربي، عبر ثلاثية جاءت متوافقة مع رؤيته للواقع، ومتناغمة مع جملة من المشاريع الثقافية التي مهد إليها، بعدد من المقالات والتساؤلات، وبالتالي تبلورت هذه الثلاثية وهي «تكوين العقل العربي»، و«بنية العقل العربي»، و«العقل السياسي العربي». ثم أخضع الجابري الأحداث والتاريخ والمشاهد المرئية وغير المرئية إلى عدد من النظريات والتطبيقات، التي كان من شأنها كشف العقلية العربية، من خلال تكوينها وبنيتها، سواء أكانت هذه العقلية اجتماعية أم سياسية أم اقتصادية، أم فكرية وأدبية، وعلى هذا الأساس جاءت تحليلاته مبنية على أسس ودعائم واقعية، لا تسبح في مساحات فارغة من التهويمات، ولم يرد أن يحمّلها ما لا تستطيع تحمله من رموز مبهمة، وأفكار غائبة. ومن خلال ما قدمه الجابري في هذه الثلاثية، من رؤى استلهمها من دراسته العميقة، للغة والدين والحضارة، بداية بحقبة التدوين، وصولاً إلى العصر الحديث، وما تبعه من معطيات وتطلعات وأحداث؛ فإن الجابري دخل في إشكاليات مهمة، تبدو فيها الرؤية شديدة الارتباط بحياة الإنسان العربي، ومن ثم المحاولة الجادة في إعادة صياغة عقله، الذي كشفه على طاولة البحث، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة فيه، إلا وتناولها بالتحليل. ورغم ما يمكن أن نلحظه من بعض الانتقادات التي وجهت إلى أفكار الجابري في ثلاثيته، مثل مسألة تقسيم العقول البشرية إلى عربي وغربي مثلاً، وكذلك استخدامه مصطلح «عقل»، بدلاً من «فكر»، كون العقل - كما يرى بعض منتقديه - واحداً، ولكن الفكر متغير من عقل إلى آخر، وغيرها، رغم ذلك تبقى الأفكار التي طرحها الجابري في ثلاثيته ذات أهمية متميزة، بفضل ما تضمنته من تجارب مبنية في أساسها على الرصد والمتابعة. وإن نتائجه تبدو - في معظم الأحيان - صادمة لهؤلاء الذين لا يطيقون التغيير، ويتمسكون بالجمود، مهما كانت حالاته. (نواصل) مدحت علام