حاول بعض السودانيين أن يؤرخوا لبداية وجودنا الوطني وكينونتنا، شعباً ووطناً، بعام 1504م، وهو العام الذي سقطت فيه دولة علوة المسيحية، وولدت فيه السلطنة الزرقاء، الإسلامية، التي اتخذت «سنار» عاصمة لها. وكان ذلك تعصباً ممتزجاً ببعض التعامي عن الحقائق، التي كانت موجودة فعلاً على الأرض. ومنها أن قبل السلطنة الزرقاء كانت هنالك دولة. بعناصرها الثلاثة، التي هي: الشعب، والإقليم أو الأرض، والسلطة. وكانت تلك الدولة السابقة للسلطنة الزرقاء من صميم ماضينا وجذورنا. وكانت هي أصلنا وفصلنا، والتعتيم عليها لا يخدم أبداً أهدافنا الحالية، التي في مقدمتها تكريس وحدة البلد والإبقاء عليه سوداناً واحداً موحداً. وزعم سودانيون آخرون أن بداية السودان كانت في 26 يناير 1885م، عندما دخل الأنصار الخرطوم بقيادة المهدي، مزهوين متألقين مكبرين مهللين، ولم يكن ذلك صحيحاً، رغم خرافية اليوم الفاخر، والمشهد العظيم، يوم 26 يناير 1885م. فالسودان وجد وعاش قبل الأنصار وقبل المهدي. وفي ما بعد، في القرن العشرين، جرت بعض المحاولات لربط بداية الوطن ببعض كبريات الحوادث، التي وقعت خلاله، ومن أهمها انقلاب 25 مايو 1969م، وانقلاب 30 يونيو 1989م. لكن المايويين سرعان ما أدركوا أن التاريخ لم يبدأ بهم، تاريخنا الوطني، ولذلك فإنهم أصبحوا يحتفلون بالمراحل التي سبقتهم من مراحل تاريخنا الوطني. ولقد اهتم الرئيس نميري كثيراً بالموقف الإداري للحكام الذين سبقوه، ولم يقصِّر نظامه معنوياً قط، إزاء عائلات الزعيم الأزهري، والعميد عبد الله خليل، والفريق عبود، وزملائه في مجلس قيادة الثورة، الذين أبعدهم عن الحكم في نوفمبر 1970م. والأهم من ذلك أن النظام المايوي كان كثير الاحتفاء بالمراحل التي سبقته. وفي بداية الإنقاذ كانت هناك محاولات لطمس كل معالم السودان القديم، وكانت هناك محاولات (لأسلمته!!) وإلغاء ماضيه الذي كان مسيحياً، وقبل المسيحية، فقد كان ماضيه وثنياً. ثم بعد الإطاحة بالدكتور الترابي في ديسمبر 1999م اعتدلت الصورة إلى درجة ما، فكان القبول بالآخر، ومحاورته، وإشراكه في الحكم... الخ. إن الحاضر أي حاضر يحظى بالدرجة العليا من الأهمية، لكن أهمية الماضي لها اعتبارها، ولا نطالب بتمجيده بالحق والباطل، لكننا نريده حياً في ذاكرتنا، نطور بعضه ونسقط منه بعض الذي لا يتناسب مع الحاضر. وهو أي الماضي ما زال قادراً على أن يؤثر في الحاضر مع اختلاف درجات تأثيره. ونحن جميعاً ننتمي إلى ذلك الماضي، وأيضاً مع اختلاف درجات الانتماء.