مجمل الشواهد على الساحة السياسية الآن تقول بذلك، لكن عاصفة التفاؤل وقوة اندفاعها الهائلة لا تسمح لأحد بالتنبؤ بحدوث الانفصال، ولا تسمح بمدى للرؤية يتجاوز بالنظر عدد الشهور المتبقية التي يصبح بعدها الاستفتاء هو المدخل الحاسم لتحديد مصير الجنوب ومصير الشمال أيضاً. واليوم بدأت الأصوات ترتفع للمطالبة بتغيير أساليب اللعب السياسي من داخل شورى المؤتمر الوطني، فيما اعتمدت الحركة الشعبية خطة جديدة للتعامل مع مجريات الأحداث، والوطني أيضاً تطاله اتهامات بأنه يلعب بالبيضة والحجر، فيما تعمدت الحركة سياسة (الإغراء) وإبراز المفاتن في بعض الأحيان، وفي أحايين أخرى ربط الأحزمة الناسفة على جسدها، وهنا يصبح أخذها بالأحضان (مغامرة) من الخطورة بمكان للمتهورين، كما يرى البعض. ويبقى السؤال شاخصاً: هل بدأ شركاء نيفاشا العمل على تصفية جيوب الانفصال التي نمت بينهما؟ أم تظل هي الأعلى صوتاً إلى حين تقرير المصير؟ فالمؤتمر الوطني متهم بأنه داعم سري لمنبر السلام العادل، رغم نفيه لذلك، وبعض قادته أسسوا المنبر ثم انسحبوا، فيما يعتبر الكثيرون أن الصوت الأعلى داخل الحركة الشعبية هو صوت الانفصاليين، الذين يجهرون بذلك في غالب المناسبات. مصادر مطلعة أكدت ل(الأهرام اليوم) أن المؤتمر الوطني طالب في اجتماعات الشورى الأخيرة بوقف التصعيد الإعلامي مع الحركة الشعبية، والعمل معاً لعبور امتحان تقرير المصير. وأشارت المصادر إلى أن هنالك توجيهات صدرت بتخفيف النبرة الحادة تجاه قادة الحركة الشعبية، دون تسميتهم بالاسم. وأضافت المصادر أن بعض الاجتماعات الجانبية على هامش اجتماعات الشورى؛ خُصِّصت لمناقشة قضية الاستفتاء وكيفية التعامل معه بمزيد من الاهتمام والتركيز، وطالبت بإسكات الأصوات التي تنادي بالانفصال في الشمال، وتوجيه وسائل الإعلام كافة لمقاومتها؛ لجعل الوحدة هي الخيار الأقوى، والصوت الأعلى خلال ال(6) أشهر التي تبقت من عمر الفترة الانتقالية. وأضافت المصادر أن الخطة التي ستُعتمد في مقبل الأيام؛ تستوجب العمل بأسس جديدة لمواجهة التحديات، وتم تصنيف عدد من الهيئات لتنفيذ البرنامج المقترح العمل بها، وهي: الهيئة الشعبية لدعم الوحدة، والهيئة القومية لدعم الوحدة، التي يترأسها المشير عبد الرحمن سوار الدهب، ومنابر أخرى تشرف عليها مؤسسة الرئاسة. وفيما أكد الرئيس البشير في أحد خطاباته السابقة أنه بعد الانتخابات سيبقى في الجنوب حتى قيام الاستفتاء، جاء طلب نائب الرئيس الأستاذ علي عثمان، من قيادة الحركة مؤخراً، السماح له بالإقامة في الجنوب خلال الفترة المقبلة؛ من أجل العمل للوحدة، جاء في ذات المسار الداعم لتنامي خطوط التواصل. ولكن الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم رد على ذلك بالقول (إن رئيس الحركة الشعبية دعا قبل (5) سنوات الرئيس البشير ونائبه الأستاذ علي عثمان لينتقلا إلى الجنوب، لجعل خيار الوحدة جاذباً، ولم يأت أحد، ولم يقدما شيئاً للجنوب. والآن يقررون في الساعة الأخيرة، الساعة ال(25) من اليوم، المجيء والعمل من أجل الوحدة). ووصف ذلك بأنه حديث غير واقعي، ومن أجل الاستهلاك الإعلامي، وأضاف باقان أن الأستاذ علي عثمان إذا كان سيحضر للإقامة في الجنوب ليدعم هذا المجهود، فسيكون ذلك عملاً عدوانياً - على حد وصفه - ليخلص باقان إلى أن قطار الوحدة ولَّى. وبالرغم من ذلك هنالك من وصف أحاديث باقان بأنها للمزايدة السياسية، وهي لا تعبر عن رأي حكومة الجنوب، وتتجه ذات الأصوات لوصف باقان بأنه رجل صاحب مزاج وحدوي، ولا خوف منه بقدر الخوف من الوجوه الأخرى داخل حكومة الجنوب، التي تجاهر برأيها علناً وتعمل للانفصال. مستشار رئيس الجمهورية السابق، والقيادي بالحركة الشعبية، منصور خالد، في رده على دعاوى الانفصال؛ قال إن الذي سيعود خائباً بلا غنيمة من انفصال الجنوب هوالشمال، وليس فقط شماليو الحركة، وتلك بلية لن يفرح إلا جاهل بمغبتها. وأضاف منصور أن الانفصالية الشمالية الجديدة ليست هي فحسب دعوة سياسية كدعوات الأقدمين، بل انفصالية تتوسل لتحقيق أهدافها ببث البغضاء، وافتعال الأكاذيب على الخصوم، واستجاشة العواطف الدنيا في الإنسان، بل تكاد تجعل من إهاجة الانفعالات العاطفية رسالة مركزية. وذات الانفصالية، ذهبت من بعد، لاستيلاد هوية يتماهى فيها الإسلام مع العروبة العرقية ابتناءً على مرجعية ذاتية دأبها العود بأهل الشمال كلهم إلى قريش في المشرق، وإلى آل عبد شمس في المغرب. وذهب منصور إلى أن انفصاليي الجنوب على الجانب الآخر، للتوجه الانفصالي تاريخ عريق يعود إلى عهد أقري جادين، مساعد مفتش مركز الفاشر الذي رفع علم الاستقلال على ساريته واستقر رأيه مع صُحب له على أن الشمال شمال والجنوب جنوب، ولن يلتقيا. وكان التعبير الأكثر تطرفاً في موقفه هو الأطروحة التي واظب عليها خلال مؤتمر المائدة المستديرة (1965). تلك الأطروحة، لا تختلف في كثير عن أطروحة غلاة العنصريين في الشمال بثنائياتها المفتعلة: العرب ضد الأفارقة، المسلمون ضد المسيحيين، المسترِقُّون ضد الأرقاء، دون أدنى اعتبار للتقاطعات المتعددة بين هذه الثنائيات الحادة. وتعبر آراء منصور خالد عن إدانة مباشرة لدعاة الانفصال من الجانبين ومخاطبتهم بشتى الوسائل للحد من تحركاتهم، ويتوقع المراقبون أن يشتد الحصار في مقبل الأيام على حالة الطيب مصطفى رئيس منبر السلام العادل، وحالة آخرين في الجنوب يطالبون بإعلان الانفصال قبل أوانه؛ بالمزيد من الإجراءات والبرامج التي تدفع بالمبادرات السلمية للأمام والعمل على بناء مشروع جديد للثقة لا سيما أن الرئيس عمر البشير شدد على ضرورة الحفاظ على الوحدة لمصلحة الشمال والجنوب، ورفع شعار (نفير الوحدة) في وقت حذر فيه من انفجار الأوضاع في البلاد بعد الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب. وترى القاهرة التي يزورها هذه الأيام الموفد الأمريكي سكوت غريشين للتباحث حول قضية الاستفتاء؛ ضرورة تقديم حوافز سياسية واقتصادية لإقناع الجنوبيين بخيار الوحدة. وبالرغم من أن القاهرة لم تعلن حقيقة تلك الحوافز، يظل الحديث عن وقف التصعيد الإعلامي وإسكات الأصوات المطالبة بالانفصال هو أحد المداخل المقترحة لتلطيف الأجواء حتى قيام الاستفتاء في أول يناير المقبل. تُرى ما الذي سيحدث حتى ذلك الحين؟