الملاحظ على تحليل د. منصور خالد للحياة السياسية في السودان إغفاله للبعد الاستراتيجي في سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية تجاه السودان. فنيفاشا ليست وليدة تفاعل القوى السياسية والاجتماعية في السودان ومظالم الجنوبيين ومساعي أمريكا واللوبيات الأمريكية – لرفع هذه المظالم عن الجنوبيين كما يوهم منصور خالد.. بل جاءت اتفاقية نيفاشا في إطار إستراتيجية متكاملة للشرق الأوسط مهندسوها هم المحافظون الجدد في إدارة بوش الثاني وتضرب بجذورها إلى إدارة أبيه (بوش الأول).. مع ملاحظة أن قصف مصنع الشفاء بالسودان تزامن مع القصف الأمريكي للعراق (عملية ثعلب الصحراء) في العام 1998.. والعمليتان العسكريتان جاءتا بفعل ضغوط المحافظين الجدد على الرئيس الأمريكي الديمقراطي كلنتون وأيضاً بعد أحداث 11 سبتمبر وغزو أفغانستان ضغط المحافظون الجدد في إدارة بوش الثاني لغزو العراق واحتلاله وكانوا مع اليمين المسيحي والكونجرس وراء طرح مشروع قانون سلام السودان والذي وقع عليه الرئيس بوش في العام 2002.. بضغط منهم. هذه الحقيقة عن وقوف المحافظين الجدد واليمين المسيحي وراء قانون سلام السودان ذكرها منصور خالد مع إغفال بعدها الاستراتيجي أي مخطط المحافظين الجدد واليمين المسيحي الشامل والقاضي بإعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط ومخطط استخدام القوة الأمريكية لفرض الديمقراطية على دوله تحت زعم القضاء على الإرهاب والهدف الحقيقي هو بسط الهيمنة الأمريكية عليهم وفق ما أورده المفكر الاستراتيجي الأمريكي بريجنسكي في كتابه (الاختيار: السيطرة على العالم أم قيادة العالم). مقارنة مع مقال أندرو ناتسيوس مبعوث الرئيس بوش الخاص للسودان (ما وراء دارفور.. انزلاق السودان نحو الحرب الأهلية).. يتوافق منصور خالد معه في تحول أمريكا من تبنى سياسة المواجهة مع نظام الإنقاذ إلى سياسة التعاطي معه بالحوار والضغط عليه لتفكيكه عن طريق المفاوضات وهو تفكيك قارنه اليمين المسيحي الأمريكي بتفكيك نظام الابارتايد في جنوب أفريقيا.. (كما ورد في كتاب منصور خالد قصة بلدين) ولكن ناتسيوس كان واضحاً في طرح مشروع (أفرقة السودان) بالكلية كما سنرى. والاثنان، منصور خالد وناتسيوس، أغفلا البعد الاستراتيجي وراء سياسة المحافظين الجدد واليمين المسيحي بإعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط. يقول ناتسيوس (يعوق سياسة الولاياتالمتحدة تجاه السودان تفكيرها في البديل ما بين اعتماد حملة إيديولوجية لإنقاذ السودان من حزب المؤتمر الوطني.. ومعالجة واقعية تعزز الإصلاح التدريجي.. لقد سعت واشنطن لتغيير النظام في التسعينات حين كانت تواجه الخرطوم وتسعي إلى عزلها) ثم ينتقل ناتسيوس إلى تبني أمريكا للواقعية كبديل للمواجهة (أي تبني التفاوض) انتهاءً إلى اتفاقية نيفاشا.. وهو ذات ما ذكره منصور خالد عن سياسة تفكيك النظام بالمفاوضات بما حدث لنظام الابارتايد في جنوب أفريقيا من وجهة نظر اليمين المسيحي الأمريكي. يقول ناتسيوس (لقد حرك المبدأ الواقعي المفاوضات الأخيرة التي تمخضت عن اتفاقية السلام الشامل). ويعود ناتسيوس إلى سياسة المواجهة التي تبنتها إدارة كلنتون وبأنها لم تسفر عن نتيجة (المدخل الذي يعمل على تغيير النظام يخلق مشاكل جمة إن الضغوط القاسية من جانب واشنطن.. العقوبات الاقتصادية.. الوصم بصفة الدولة الراعية للإرهاب.. تخفيض حجم التمثيل الدبلوماسي.. أرغمت الخرطوم على طرد بن لادن في منتصف التسعينات لكن من الواضح أن السياسة الأمريكية كانت تمثل فشلاً كاملاً) مشيراَ إلى إن سياسة المواجهة لم تنجح في تغيير النظام في الخرطوم. ذات التتبع لمسار العلاقات الأمريكية السودانية من سياسة المواجهة إلى سياسة التعاطي مع نظام الخرطوم ورد عن منصور خالد في كتابه المذكور إذ يقول (أسلفت الإشارة إلى عدد من المبادرات السلمية التي طرحتها الإدارة الأمريكية وباءت جميعها بالفشل ولكن استمرار الصراع وشيوع حالة من اليأس واستفحال المكاسب الإنسانية إلى جانب ضغوط المنظمات الطوعية دفعت كلها واحداً من أهم مراكز البحوث الأمريكية: مركز الأبحاث الإستراتيجية والدراسات الدولية (CSIS) لتدارس الوضع المتدهور في السودان وقام بتمويل الدراسة معهد الولاياتالمتحدة للسلام (USID) الذي يرعاه الكونجرس وفي يوليو 2001 قدم المركز ورقته التي صدرت تحت عنوان (إعادة تنشيط النقاش حول قضية السودان) وأصدر توصيات عملية للإدارة الجديدة لحوار مفتوح في محفل عام وقد دُعي لذلك الحوار الناشطون المعنيون بقضية السودان من الأكاديميين والدبلوماسيين وبعض أعضاء الكونجرس.. استفاد فريق العمل الذي تصدره فرانسيس دينق وستيفن ميرسون رئيس برنامج أفريقيا التابع للمركز من إسهامات أكثر من 50 مشاركاً.. ومن المعلومات التي أوردها بعض الخبراء الملمين بالوضع في السودان وبناءً على تلك الدراسات خلص الفريق إلى أن المشكلة الأساسية التي يتعلق بها كل شيء في السودان هي الحرب ولذا حث الإدارة الأمريكية على المشاركة بفاعلية في ممارسة ضغوط قوية متعددة الأطراف بالتعاون مع القوى الأوروبية المهتمة بالأمر من أجل إنهاء الحرب الأهلية في السودان وكبديل للسياسة السابقة اقترحت الورقة تبني إستراتيجية محكمة تستند إلى الدبلوماسية والتشاور الوثيق مع كافة الأحزاب والإغراء والمحاسبة والتخطيط لمبادرة دولية متعددة الأطراف). إذن فقد تبنت الدراسة المعنية سياسة الدبلوماسية والإغراء إلى جانب الضغوط.. ولكن ضغوط على من؟ سنرى أن الضغوط قصدوا بها نظام الإنقاذ تحديداً وفق قانون سلام السودان المتزامن مع الدراسة المعنية – ما يؤكد ما ذهبنا إليه عن أن نيفاشا قصدت حصراً إلى هيمنة الحركة الشعبية لتفكيك نظام الإنقاذ في مقارنة مع تفكيك نظام الابارتايد وفق رؤية اليمين المسيحي بما أورده منصور خالد.. ووفق أقوال ناتسيوس فتفكيك نظام الإنقاذ يعني إقصاء عرب السودان (المزعومين) كما جاء عنده. والدراسة هذه وقانون سلام السودان هما قطبا هيكلة اتفاق ماشاكوس واتفاقية نيفاشا.. خاصة مقترح نظام برأسين ودعم الجنوب ليصبح قادراً على حكم نفسه بنفسه. عن نظام برأسين كان المخطط أن ينتهي السودان إلى نظام (حكم برأس واحد) هو الحركة الشعبية.. أما حكم الجنوب لنفسه بنفسه فكان يعني انفصال الجنوب في حال لم يتحقق المطلوب وهو ما أشرنا إليه في المقال السابق أن اتفاق ماشاكوس واتفاقية نيفاشا محورهما التحول الديمقراطي بما ينتهي بسيطرة الحركة الشعبية أو انفصال الجنوب. ويتضح ذلك في توصيات الدراسة إذ أوصت ب(انضمام الولاياتالمتحدة بفاعلية للمملكة المتحدة والترويج والدول المجاورة للسودان للضغط على الأطراف لكيما تكون أكثر جدية في مفاوضات السلام.. إطلاق الولاياتالمتحدة لمبادرة سلام إقليمية جديدة.. السعي للوصول إلى اتفاق حول ترتيبات الفترة الانتقالية يستند إلى مبدأ سودان واحد بنظامين.. عرض إغراءات متنوعة وممارسة ضغوط مختلفة بغية دفع الطرفين إلى التفاوض بحسن نية.. تنظيم خطة دولية على أعلى المستويات من أجل بناء جنوب يحكم نفسه بنفسه). منصور خالد.. علامة استفهام؟ يقول منصور خالد معلقاً على دراسة نظام براسين (تلك المذكرة أربكت السودانيين وأخذ البعض يتحدث عنها باعتبارها بالون اختبار أطلقته الإدارة الأمريكية وليس هناك أبعد من الحقيقة من هذا الظن.. فالإدارة لم تكن قد بلورت سياستها حتى تلك اللحظة لأن السودان لم يكن في قائمة همومها بالرغم من كل ظنون المعلقين في الخرطوم وما كان للإدارة الجديدة أن تبدي أي اهتمام لما يدور في السودان لولا ضغوط اللوبيات المختلفة عليها). عن ملاحظة منصور خالد هنا عن غياب اهتمام إدارة بوش الثاني بالسودان لولا ضغوط اللوبيات عليها.. فإن إدارة بوش الثاني كانت إدارة المحافظين الجدد الذين جاءوا به على البيت الأبيض بغرض تحقيق المشروع الإمبراطوري الأمريكي بالسيطرة على موارد الطاقة في العالم، وبما سنجده عند هيكل في كتابه (الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق). والمحافظون الجدد كانوا وراء عملية ثعلب الصحراء في العراق وقصف مصنع الشفاء في السودان وعليه لا شك في أن السودان كان واقعاً في دائرة اهتمامهم وضمن أجندتهم بعكس زعم منصور خالد بعدم اهتمام إدارة بوش الثاني بالسودان ونعود هنا إلى ما قلناه نقلاً عن هيكل في كتابه المذكور عن ورود اسم السودان على لسان دونالد رامسفيلد ضمن قائمة الدول التي تتطلب التدخل العسكري الأمريكي في حرب أمريكا على الإرهاب. وأيضاً بما ذكره الصحفي الأمريكي سيمور هيرش في كتابه (القيادة الأمريكية العمياء) على لسان كوندوليزا رايس فإن أفريقيا كانت على رأس قائمة اهتمامات بوش الثاني إذ شكلت خارطة البترول الأفريقية أساس إستراتيجيته. هذه الأسباب مجتمعة: نفوذ المحافظين الجدد واليمين المسيحي الأمريكي داخل الكونجرس والإدارة الأمريكية ومشروع المحافظين الجدد الإمبراطوري الأمريكي بالسيطرة على موارد الطاقة واهتمام بوش بأفريقيا ونفطها.. كانت وراء اتفاق ماشاكوس واتفاقية نيفاشا.. وكما قلنا فإن الاتفاقيتين قد صممتا إما لتحول ديمقراطي ينتهي بسيطرة الحركة الشعبية أو انفصال الجنوب بما ورد في الدراسة المعنية عن نظام برأسين بغرض الإبقاء على رأس واحد هو الحركة الشعبية أو تمكين الجنوب من أن يحكم نفسه بنفسه وهو ما ينعكس اليوم في اهتمام أمريكا باستفتاء الجنوب والحرص على تسليح الجنوب وتنميته. أي أن يصبح قادراً على حكم نفسه بنفسه.. كما جاء في الدراسة المعنية. وكانت وسيلة تحقيق سيطرة الحركة الشعبية هي الضغط على نظام الإنقاذ بقانون سلام السودان.. وتزامنت الدارسة المعنية مع إعادة طرح مشروع قانون سلام السودان ووصف منصور خالد تزامنهما بالمفارقة.. ولكن هل هي (مفارقة) أم (تكامل مقصود). خاصة وأن الجهة الداعمة لهما واحدة هي الكونجرس. يقول منصور خالد مشيراً إلى فريق العمل الذي أجرى الدراسة القاضية بدولة برأسين (ومن المفارقة أنه حين كان فريق العمل منكباً على إعداد ورقته تقدم ثمانية من أعضاء مجلس الشيوخ خمسة من الحزب الحاكم وثلاثة من الحزب المعارض باقتراح يدعون فيه حكومتهم للعب دور قيادي في عملية السلام في السودان على ضوء مشروع السلام السوداني الذي أقره مجلس النواب). وفعلاً وقّع بوش على المشروع في العام 2002 يقول منصور خالد (جاء توقيع الرئيس الأمريكي في 21 أكتوبر 2002 على قانون السلام السوداني الذي أقره مجلس النواب منذ بضعة أعوام). وتحت قانون سلام السودان والذي حصر ضغوط أمريكا وشركائها على حكومة الإنقاذ جاءت اتفاقية نيفاشا في صالح الحركة الشعبية وأعطتها أكثر مما تستحق: الانفراد بحكم الجنوب والمشاركة في حكم الشمال وكان المخطط هو بسط سيطرة الحركة على السودان كله بوسيلة التحول الديمقراطي. (نواصل)