ما طرحه فوكو ياما في كتابه «نهاية التاريخ» أصبح مخططاً لامناص منه ولا فرصة للإفلات من براثنه، ولايمكننا جلد أنفسنا بتهمة اللامبالاة وقلة الوعي كما درج البعض منا تسميته، ولكن هنا يجب أن نُقر بالعجز حتى نتمكن من مراجعة امكاناتنا وقدراتنا وكيفية تنميتها، لأن قيم العولمة والتنميط الثقافي والاجتماعي لايمكن بحال من الأحوال أن تدع لنا وجوداً حقيقياً نابعاً من تجربة العربي من المحيط إلى الخليج وثقافته وعقيدته. وراء هذا الضباب والغموض.. ندع أطفالنا لمواجهة طوفان الإعلام الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ من آلاف المحطات الفضائية وآلاف الشركات المنتجة للمواد التي تتزاحم في الفضاء، حتى كاد أن يضيق بها على سعته، وتنهمر وابلاً من القيم والسلوكيات والمواد الغريبة عن طبيعة هويتنا وثقافتنا، وما نزال فاغرين أفواهنا أمام صدمات متكررة، «الأهرام اليوم» طرقت الموضوع مع إختصاصيين في المجاليين الاجتماعي والنفسي، وتداخلت معهم لمحاولة الأجابة عن سؤال أطفالنا والعولمة فماذا قالوا؟ يقول د. مصباح قسم الله الإختصاصي في مجال علم النفس الاجتماعي: إن ترك أطفالنا أمام التلفزيون لساعات طويلة لمتابعة أفلام الكرتون.. هذا الشيء يغسل أدمغتهم، ويمثل جانباً خطيراً من جوانب ماكنا ندعوه بالغزو الثقافي أيام الوسائل التقليدية للاستعمار الثقافي. وأشار أن الأستاذ عبدالواحد علواني في مقالة حول أطفالنا في كل العولمة ذكر بأن «مايدعى بالعولمة في راهننا أصبح أشد خطورة، فالمسألة لم تعد قضية سد منافذ ومسارب، بل أنها أصبحت واقعاً مفروضاً. إنه طوفان مماثل لطوفان نوح ولكن السفينة الوحيدة التي يُراد لها أن تنجو هي سفينة النمط الأمريكي. وأبان قسم الله وأنه وقف أمام فيلم كرتوني بديع الصنعة مُتقن الإخراج والحركة والألوان بعنوان(oliver) ويدور في قصة قطة تُدعى أولفر، تُعرض للبيع مع مجموعة من القطط الصغيرة، تُباع كل القطط وتبقى هي مع أنها تحاول التودُّد إلى كل مشترٍ، ولكن دون جدوى، وفي آخر النهار يتركها البائع في شوارع نيويورك تجرِّب حظها في الحياة، وبعد ليلة عاصفة بالمخاطر والبرد والمطر تستفيق على نهار ربيعي جميل، وفيه تحاول التودُّد إلى المارة دون جدوى وتحاول الحصول على بعض الطعام من بائع متجول ولاتفلح، تجمعها المصادفة مع كلب شارد يقدم أنموذجاً لسلوكيات المتشرِّد عبثيته واستحقاره، ويبدأ الكلب في تعليم القطة أصول العيش في المدينة ويتفق مع القطة على سرقة عقد النقانق المشوية من البائع المتجول، وينفذان عملية السطو ببراعة، ولكن الكلب يستأثر بالنقانق ويرفض إعطاء القطة حصتها ليعلمها الدرس الثاني، بأن لاتثق بأحد، ومع إصرار القطة على نيّل حقها يقودها إلى أوكار المدينة، ودهاليزها حيث المشردون والقتلة وتمضي الأحداث الشائقة لأكثر من ساعة ونصف الساعة دون أن يجد المتابع فرصة للملل أو الراحة وتتعلم القطة اللطيفة أساليب الحياة على أيديهم، وتتعرف إلى الحياة من خلالهم وتستقي أفكارها ومفاهيمها لافتاً د. مصباح إلى أن هذا الفيلم قُصد به مسح وغسل ما يحمله الطفل من قناعات وهوية وتقاليد وعادات سمحة اكتسبها من مجتمعه. ويقول هذا ما تعكسه ثقافة العولمة والتي تتعدّد مساربها ونوافذها، ومع ذلك يتم التركيز بعيداً عن الجانب الاقتصادي يحمل الكثير من القيم البديلة التي تتسرب بخبث أكبر إلا أن الجانب الثقافي والاجتماعي يبقى الجانب الأخطر ملمحاً بأن شكل وجودنا رهناً لأرباب العولمة المسيطرين عليها، وما يقدمونه من نموذج للحياة أنه في معظمه يتفق مع ما ندعوه بالنمط الأمريكي منذ أيام رعاة البقر مروراً برامبو، وفان دام وسواهما وانتهاءً بالأساطير الكونية المفبركة ووسط هذه الأجواء تترك الكثير من الأسر أطفالهم أمام الشاشة البلورية والتي تنقل قنواتها من نافذة إلى أخرى مقدمة لهم السم في الدسم في قوالب فاخرة من الإخراج والتكتيك والسيناريو المحكو في استخدامه وتغلغله في حياتهم. وعلى السياق أوضح د. سمير إبراهيم الباقر باحث أكاديمي بأن: مسارب العولمة وتأثيراتها الثقافية لاتقتصر على الأفلام بل هناك مسارب أكثر خطورة لأمرين: أولهما يكمن في أننا لايمكن أن نغلقها نهائياً إذ ليس في مقدرونا هذا ولايمكن أن نكون جزءاً من العصر بدونها، وثانيها أننا لانسعى إلى ترشيد وتهذيب استخدامها في حياتنا. وأشير هنا إلى ثلاثة مسارب وهي الطوفان الإعلامي وثورة المعلومات والإنترنت والسلع التجارية من ألعاب وأغذية وألبسة وغيرها، مشيراً إلى أن المآرب واضحة وذلك يجعل أجيالنا تكون في تبعية كاملة، وذلك من خلال المشاهد كالقنوات والأفلام والمواد الإعلامية الجنسية أو التي تجاهر بعدائها لنا ولوجودنا أو التي تُمرّر بصورة مشوّهة لنا مبيناً أن الملاحظ لهذه القنوات يشاهد عبثية كبيرة في المواد التي تقدم للطفل والناشئة وعلى نحو ما يبث من قيم دخيلة وغير ملائمة لنا.. فالذي يُبث من خلال أفلام الكرتون نرى بأن الملامح الأساسية التي تميز البطل في هذه المواد التي تقدم لأطفالنا بأن شخصيته أما انتهازي أو انحرافي أو لايملك الفكر بل في أحيان كثيرة عبثي ولامبالي ومهرّج ووصولي وصفات أخرى عديدة في غاية السلبية. ويقول د. سمير أن ضعف صحافة الأطفال وما يخصص لهم يكون دائماً هزيلاً ولا يحقق اهتماماً حقيقياً بهم، علماً أن معظم الصحف تقدم أخبار الجريمة والعنف بجانب المساحة المخصصة للطفل أو قريباً منها، ويضيف: وأهم ما يُثير القلق أن سعي القنوات الفضائية والأرضية نحو الإثارة يعزز المزيد من الخطط التي تمهّد لسلبيات العولمة وعبورها بواباتنا الهشة دون استئذان. كما أن برامج المنوعات والترفيه لاتضع نصب عينها سوى قتل الوقت وإهمال جانب الطفل كما أن بعض البرامج تلتزم جانب التأكيد على أسس الهوية والإنتماء ولكنها لاتشكّل نسبة تدعو للتفاؤل.