اعتدت في معظم أسفاري، خاصة تلك التي تستهلك وقتا طويلا من الانتظار، والتلفت هنا وهناك، وملل المطارات الذي ربما لا يفلح تصفح الإنترنت في القضاء عليه، أن أصطحب كتابا، أمسكه في يدي وأبدأ مطالعته حالما أعثر على ركن هادئ داخل صالات المغادرة. إنه كتاب أنتقيه عشوائيا من الكتب المكدسة في بيتي، وأحيانا لا أنتبه إلى عنوانه، إلا ساعة مطالعته، قد أجده ممتعا وتستمر قراءته معي وأنا أصعد إلى الطائرة أو داخل الطائرة، وقد يكون مملا من بدايته، وتصبح الرحلة أشد مللا، وأنا لا أستطيع المضي في القراءة. عادة القراءة في السفر، ليست عادة تخص فردا أو أفرادا بالطبع، ولكنها عادة قديمة ومهمة، يمارسها كثيرون، ولطالما شاهدت أشخاصا في المطارات ومحطات القطارات منشغلين في كتب يحملونها ولا يكادون ينتبهون إلى خطواتهم التي قد تتعثر في السلالم المتحركة، أو الأرصفة، أو إلى نداءات السفر التي تناديهم إلى القطارات والطائرات، وأذكر أنني كنت مرة أجلس في صالة المغادرة بجانب رجل إنكليزي يقرأ رواية لستيفن كينج، هي رواية: «بؤس» أو «ميزري»، وكان يتابعها بشغف، ولم ينهض معنا حين طلب منا الذهاب إلى الطائرة، ولم يأت إلا حين أوشكت الطائرة على الإقلاع. لم أكن قرأت رواية «بؤس» في ذلك الوقت، ومنحني استغراق الرجل، وتلك المتعة الغامضة التي قرأتها في عينيه، دافعا قويا للبحث عنها والاستغراق فيها كما كان يفعل هو، ظل هاجس اقتناء تلك الرواية يطاردني زمنا وكنت بالفعل أبحث عنها، رغم عدم اهتمامي الكبير بروايات الجريمة، أو تلك التي تعالج موضوعا جنائيا، كنت أجدها رغم ما يبذل فيها من مجهود، كتابة خارج تذوقي الفعلي، الذي يبحث عن الغرائب، واللغة الشعرية والعوالم التي نصفها واقع ونصفها أساطير، وحين عثرت عليها في النهاية، وجدتها بالفعل جاذبة، إنها قصة فيها الكثير من المواقف الإنسانية المؤثرة، قصة رجل مشلول يتابع أفكاره المسجونة في جسد مسجون بالمرض، بكثير من التسارع والمغص. أيضا جلست بجانبي مرة امرأة يبدو من ملامحها أنها أوروبية شرقية أو ربما روسية، كانت تقرأ كتابا باللغة الإنكليزية عن الموت والطقوس القديمة في دفن الموتى وتشييعهم، كما انتبهت من الرسوم التي كانت موجودة بين صفحة وأخرى، وكانت أيضا مستغرقة في القراءة لدرجة أنها رفضت الطعام، وأي شيء يختص بالضيافة داخل الطائرة، وأخالها تأكل من الصفحات وترتوي مما تشربه من السطور. لم يكن تساؤلي في ذلك اليوم عن المتعة التي وجدتها تلك المرأة في كتاب الموت ذلك، وإنما تساؤلي هو، كيف أعثر على الكتاب المفتوح بين يديها من دون أن يكون غلافه واضحا لأقرأه وأحاول حفظ الاسم. ولم أكن من الجرأة كي أسألها وأعرف، وحين وصلنا إلى نهاية الرحلة، كانت القارئة المسافرة قد وصلت إلى نهاية رحلة القراءة أيضا، طوت الكتاب بسرعة وزرعته في حقيبتها، وأكاد أقفز بعيني إلى داخل الحقيبة لانتزاعه وإعادته إلى يديها مطويا وبغلاف واضح يتيح قراءة الاسم. كان أكيدا من كتب المعرفة التي أحب اقتنائها، ونبش محتوياتها، وربما أعثر على كنز بالفعل في بعضها وليس كلها بالطبع، ولطالما كانت هناك كتب تحمل عناوين ثرية، وحين تقلبها لا تعثر على أي ثراء كبيرا كان أم صغيرا: كتاب يحدثك عن تاريخ السيوف مثلا، ولا تجد سوى معلومات عامة قد تكون تعرفها، كتاب عن عادات قبائل الصحراء الغربية، ولا يخرج من تلك المعلومات الأولية المتوفرة في يوكيبيديا، التي لا يمكنك أن تستفيد منها أو توظف بعضها في رواية، لأن هناك من يتابع، ويعرف حجم المعلومة ومن أين جاءت. كتب المسافرين تبدو إذن قوائم ترشيح غير مقصودة للقراءة، لمن هم مولعون بالقراءة، ذلك كما اتضح من كتاب «بؤس» لستيفن كينج الذي رشحه لي، انغماس رجل في قراءته، وكتب أخرى أحاول تذكر بعضها الآن: في العام الماضي كنت عائدا من الخرطوم، وكان يجلس في المقعد الذي أمامي شاب يقرأ رواية «سنترال بارك» للفرنسي غيوم ميسو. كنت أعرف ميسو، وأعرف أنه كاتب أقرب للرومانسيين، ولكني لم أقرأ له من قبل قط، ومنحتني طريقة احتفاء الشاب بكتابه المترجم للعربية، وتقليبه بين يديه، والعودة لقراءته، والتنهد مرارا، منحتني إيحاء قويا أن تلك الرواية رائعة، وحين وصلت إلى الدوحة، بحثت عن «سنترال بارك» وقرأتها وكانت قصة جميلة عن محققة شابة في الشرطة الفرنسية، تصاب بإغماء، في باريس وتستيقظ لتجد نفسها مقيدة إلى رجل كان في إنكلترا، ووجد الاثنان نفسيهما في ساحة «سنترال بارك» في نيويورك، وتحركت القصة بكثير من الإثارة. رواية «هيبتا»، المصرية الشهيرة شاهدتها أول مرة في يد فتاة سودانية، كانت منهمكة فيها في مطار الخرطوم، وهذه تعرفت إليّ حين لمحتني، وحيتني وأمكنني أن أسألها إن كانت الرواية جميلة أم لا، فردت بسرعة، إنها غاية في الجمال. دفعني ذلك للبحث عن «هيبتا» ولم يكن بحثا مضنيا لأن الرواية كانت متوفرة في كل مكان تقريبا، وقرأتها لكن بقليل من المتعة، لم تكن تناسب تذوقي بكل تأكيد. أبريل/نيسان الماضي، وفي مطار خليجي، كانت هناك فتاة أيضا تقرأ كتابا بالقرب مني، إنها رواية «الوصية الفرنسية» للفرنسي أندرية ماكين الذي ولد في روسيا، وحصلت روايته تلك على جائزة غونكور المعروفة، كانت الرواية عندي لكني لم ألمسها أبدا، ذلك أنني قرأت عددا من روايات غونكور، من بينها رواية لعتيق رحيمي، ولم تعجبني على الإطلاق. الذي حدث أن قراءة الفتاة شحنتني إيجابيا وحرضتني للبحث عن الرواية في مكتبتي وحشرها في حقيبة الكومبيوتر لقراءتها في أول رحلة لي خارج مستقري، وقد كان، حملتها منذ أيام في رحلة إلى الخرطوم، وامتلأت بها طوال الست ساعات التي قضتها الرحلة، وأكملتها في صالة انتظار الحقائب. إنها رواية نشرت بالفرنسية عام 1995، وعلى الرغم من ذلك أحس بانبهار أمامها، رواية حقيقية، فيها تاريخ وجغرافيا وحقائق وأساطير، وكل ما ندعو لكتابته داخل الرواية.