لم يتجاوز الحبيب ضياء الدين بلال أو يغادر الحق قيد أنملة عندما كتب في مقاله يوم أمس: (إن وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت أسوأ ما فينا من سلوكيات وصفات)، وعدّد من بين ذلك حب الثرثرة والنميمة، وأكل لحوم الغير، وبثّ الشائعات، وتجريم الآخرين، ونبش سير الناس بالباطل. عند أول ظهور الشبكة العالمية في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي قال برايان هينلي، أحد خبراء البنتاغون الذين تعهدوا هذا الاختراع الجبار فكرةً، وأسهموا في إنشائه واقعاً وحقيقة، قال في وصفه: "الإنترنت عبارة عن أداة، مثله مثل الفأس في يد الفلاح، يمكنك أن تستخدمه في الزراعة واستثمار الأرض لخير الإنسان، ويمكنك في المقابل أن توظفه لخدمة منازع الشرّ فتضرب به رأس أي إنسان وترديه قتيلاً"! لسنا وحدنا، فالشرّ الذي حصدته شعوب كثيرة من حولنا جرّاء الفِتَن والمآسي والابتلاءات التي جرى توظيف الوسائط التواصلية في تدبيرها وتعميقها ونشرها يفوق بكثير ما حصدناه نحن السوادنة، والحمد لله من قبل ومن بعد! من أقبح ما كَشَفت عنه تجربتنا السودانية في التعامل مع الوسائط التواصلية ندرة روح الاعتدال والنصفة في مواجهة تفاحش العصبيات الفكرية والسياسية، والنزعات العارمة لتوظيف كل سانحة لأغراض تشويه الآخر وأبلسته والتنكيل به. ثم تضاف إلى ذلك كله البلوى الأكثر فداحة وهي اختلال الضابط المعياري في تقدير ما يُكتب وما لا يكتب، ما يُقال وما لا يقال، وما يُذاع على الناس وما لا يُذاع. يصعب جداً أن تجد بين ظهرانينا اليوم من يجنح إلى التقويم الموضوعي المتأني بإزاء الظواهر والوقائع والحادثات المستجدة في مضامير الحياة العامة ومشاهدها السياسية والاجتماعية، بحيث يكون تحرّي الحق والصدع بالرأي الخالص المتجرد من الغرض هو الموئل والأساس. وبإزاء حالة الاستقطاب الحاد المزمن الذي أصبحنا نحيا في غمراته فإننا ما ننفك نشهد في كل يوم تطلع فيه الشمس العجب العجاب، وما في الوسع إلا هز الرؤوس وضرب الكفوف والحوقلة والدعاء الخالص إلى الله أن يؤمن روعاتنا ويلطف بنا، إنه هو اللطيف الخبير العالم بمصابنا. شريطي فيديو لفتاة، عشرينية كما يبدو لي، هي أحدث واردات المشهد التواصلي الإلكتروني السوداني. في الشريط الأول تصرخ الفتاة في وجه شيخ في مقام جدها، بلؤم ووقاحة ما أظن أنني رأيتها من قبل عند بناتنا، وتقول له بأن من حق الفتاة أن تخرج لشأنها وأن تعود إلى منزلها في الثانية صباحاً دون أن يعترضها أحد من شرطة السواري. ثم تعاير الفتاة الشيخ، وهو أستاذ جامعي يقوم بتدريس مادة أصول الدين بإحدى الجامعات، بأنه ينصرف إلى قضايا هامشية وتطالبه بأن ينادي بحق المرأة في أن تكون العصمة بيدها عند الزواج، وما يشبه ذلك من الحقوق كما تراها! وفي الفيديو الثاني الذي تم تسجيله في ذات المناسبة وعين الموقع تصرخ نفس الفتاة، التي يُفترض أنها تنافح عن حقوق المرأة السودانية، فتقول إنها لا تؤمن بالزواج أساساً، وتصف فكرة الزواج بين الرجل والمرأة بأنها فكرة فاسدة. ثم تمضي الفتاة قدماً لا تلوي على شيء فتعلن على الملأ زهدها في الدين. وربما رأت صاحبتنا هذه أن تحترم بعض مشاعرنا، نحن أهل السودان، فلم يجيء تعبيرها في شأن يأسها من دين آبائها باللغة العربية، وإنما اختارت لغة الفرنجة الأماجد! لم يزعجني ما تفوَّهت به تلك (المناضلة) المنافحة عن قضيتها بقدر ما أزعجني ميل كثيرين في الوسائط التواصلية للتعاطف مع المسلك الدميم ومحاولة إيجاد التبريرات لذلك الأداء الذميم المتفلّت السافر في خروجه عن القيم السودانية المستقرة وفي مقدمتها احترام كبارنا، والتأدب في الخطاب، وتوقير الأديان والمعتقدات. ولكن ما هو مصدر مثل ذلك التعاطف؟ هل هو الاقتناع الحقيقي بما هو مطروح أمام هؤلاء في شأن قضايا المرأة والدين والحقوق؟ أبداً، فالنظرة العابرة على مجمل الغثاء الذي تطفح به الوسائط ستدلك وتقود خطاك منذ ساعتك الأولى وأنت تطالع ردود الفعل إلى حقيقة واحدة، وهي أن الغرض السياسي هو الذي يغذي كل المنطلقات ويغطي على جميع المشاهد. وصاحب الغرض يرتخي زمامه دوماً للأوهام وينفرط عنده لجام العقل. إذ يعتقد كثير من هؤلاء وجلّهم من قوافل اليسار والليبراليين، غفر الله لنا ولهم، وهم أكثر خلق العوالم الإليكترونية حراكاً وناشطية، أن مثل هذه السوانح التي تنعم بها عليهم أمواج الوسائط، مثل سانحة الفتاة العشرينية، قد تصلح أداةً للتحشيد ضد المعسكر الإسلامي وضد نظام الحكم القائم والكيد له، وذلك بتسليط الضوء على ما يحسبونه من سوءات التشريعات والممارسات التنفيذية مثل تطبيقات قانون النظام العام والتضييق على الحريات الشخصية، وهو القانون الذي يظل موضعاً للجدل حتى داخل معسكر الحكومة نفسها. وإنما يريدون – وقد انبهمت عليهم المسالك وتاهت بهم الدروب- اهتبال مثل تلك الفرص، تدفعهم العصبيات الكيدية، ليقولوا لأمثال هذه الفتاة البائسة: أنتن مناضلات على صراط الحق الثوري، وتلك حقوقكن افتأت عليها الإسلاميون الظلاميون، فاخرجن زرافاتٍ ووحدانا، كاسياتٍ وعاريات، على طريق الثورة! وفي حكمة السوادنة: سيد التايهة يفتح خشم البقرة!