تحدثنا في المقال السابق عن عدم جواز تكفيرالمتأول. وذكرنا خبر الخوارج في تكفيرهم للإمام علي كرم الله وجهه وأصحابه وطائفة من الصحابة الأخيار واستحلالهم من ثم دماء المسلمين الذين حكموا عليهم بالكفر لمفارقتهم بزعمهم لمبدأ الحاكمية وتحكيمهم للرجال بدلاً من التحاكم لله. الحاكمية والكفر: وأصحاب التكفير في زماننا يستخدمون منطقاً يشبه منطق الخوارج في تكفيرهم للحاكم وللأحزاب والجماعات السياسية بحجة الحكم بغير ما أنزل الله أو بحجة «الإذن بالمنكرات والسكوت عليها أو بحجة موالاة الكافرين وعدم التبرؤ منهم» وقد رددنا على الحجة الأولى بالقول إن الذي يعطل الحكم دون إنكاره لا يُكفر وإنما يعتبر من العصاة أهل الوعيد. فحاله مثل حال من علم الحكم الشرعي ثم لم يستقم عليه فهو فاسق أي خارج عن الطاعة. والفسوق هو خروج حصاة الثمرة عن قشرتها، وهو كناية عن خروج المرء عن الامتثال للحكم الشرعي. ولكن عدم الامتثال للحكم الشرعي دون الإنكار له لا يُخرج الفاسق من الملة. وقد علمت الكافة من الناس أنه على الرغم من تعطيل أحكام كثيرة من شرع الله في مختلف العصور وإعلان أصحاب الفجور والفسوق عن فجورهم وعصيانهم فإن الجمهور منع علماء المسلمين لم يكفروا هؤلاء المشتهر أمر فسوقهم بين الناس. ولا يعني ذلك عدم إنكار العلماء للفسوق والفجور وتسويغهم للمجاهرة بالمعاصي بل قد عُرف عن هؤلاء تصدّيهم القوي لحكام السوء وأصحاب البدع. وللإمام مالك والإمام أحمد مواقف شهيرة في التصدي لأصحاب الفسوق والبدع. وموقف الإمام أحمد في فتنة خلق القرآن موقف مشهود. ولكنما لم يؤثر عن الإمام أحمد أنه قد كفّر المأمون أو المتوكل ببدعة خلق القرآن رغم تعذيبهما وفتنتهما له. وقد وقف كبار الأئمة ومنهم الإمام أحمد والإمام ابن تيمية ذلك الموقف. لأنهم عذروا أصحاب البدعة بكونهم متأولين يعتقدون صدق اجتهادهم. وعلموا أنه إذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات فمن باب أولى أن تدرأ كلمة الكفر عن المسلمين بشبهة كونهم متأولين لا منكرين. والمتأمل في كتاب الله العزيز يجد أنه سبحانه وتعالى وصف أصنافًا من العصاة والفساق أوصافاً شنيعة ولكنه لم يصفهم بالكفر على الرغم من ذلك. ففي قوله تعالى : «إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم» وهل ثمة أشنع من محبة هؤلاء الفساق إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بل وتجرؤهم بالتهمة على أم المؤمنين. ولكن القرآن على الرغم من شناعة عملهم لم يصفهم بالكفر. وأجرى على من ثبت عليه الجرم عقوبة الحد التي هي واحدة من مكفرات الذنوب لمن يتوب، وقد وردت في السنة أخبار تحدِّث عن لعن الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة ولعن شارب الخمر وحاملها والمحمولة إليه . ورغم شناعة اللعن فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكفّر هؤلاء. ولم يقل أحد من العلماء قط إن الوشم أو شرب الخمر مخرج لصاحبه من الملة. فصاحب الكبيرة عند أهل السنة والجماعة يدخل في أهل الوعيد الذين يرجون لأمر الله يوم القيامة. إن شاء غفر لهم وإن شاء عذبهم وهم يقرأون في الكتاب «إن الله يغفر الذنوب جميعاً» إلا أن يشُرك به. تكفير المُعيَّن أحكامه وضوابطه: ونقصد بالمُعين الفرد المحدد بشخصه أو بوصفه. فلا يجوز لأحد غير السلطان أو القاضي أن يصم أو يصف معيناً بالكفر.. لأن الوصف بالكفر قد يصبح مهدداً لحياة ذلك الفرد فهو أشبه بالتحريض على القتل. ولذلك يتوجب أن يُسن من التشريع ما يمنع تكفير المُعيَّن إلا وفق إجراءات وضوابط محددة موصوفة بالقانون. وأول تلك الإجراءات ألّا يجوز لغير المحكمة إصدار حكم بتكفير شخص بعينه. وذلك بعد تحريك الإجراءات إما بواسطة جهة رسمية ممثلة للدولة «ممثلة للحق العام» أو جهة متضررة «ممثلة للحق الخاص» كأن تتقدم الزوجة بدعوى التكفير ثم التطليق بدعوى الكفر. فإذا رفعت دعوى التكفير من نيابة عامة أو جهة خاصة متضررة فعندئذٍ لا يجوز للمحكمة أن تقضي في الأمر دون سماع وتبين. ونعنى بالسماع والتبين إحضار المدّعى عليه أمام المحكمة للسماع منه مباشرة دون واسطة. والتحقق من قوله إذا كان مسوِّغ الدعوى قولاً. والتحقق من فعله المفضي للكفر إذا كان مسوغ الدعوى فعلاً.. وذلك للنظر فى الاحتمالات فلعل قائل القول متأولاً. فمن المقطوع به عند العلماء أن الأمور المختلف عليها لا تعتبر مسوغاً للتكفير. فإذا كانت دعوى التكفير قائمة على مسألة فيها خلاف كأن يقول مثلاً بأن القرآن مخلوق فلا يُقضى بكفره. لأنها مسألة اختلف عليها المسلمون وإن كان القائلون بذلك يعدون عند جمهور علماء المسلمين من المبتدعة. ولكن الجمهور وعلى رأسهم كبار الأئمة من أمثال أحمد والشافعي وغيرهما لم يكفروهم بل عدوهم من أصحاب البدع. وقد يكون القائل قال بالقول الذي يُعد مسوغاً للدعوى لجهله فاستماع المحكمة له وتحققها من ذلك يُعد صارفاً لحكم التكفير. فالاستبانة والتحقق من ذلك ثم البيان والتوضيح له وقبوله للبيان والتوضيح يدفع حكم التكفير عنه. وإذا كان المتهم بالقول المكفر مدعياً للعلم مع جهله فإن المحكمة توضح له حكم ما اختلف فيه إلا ان يعاند ويصر على التمسك بقول لا تجد المحكمة فيه وجهاً للتأويل . فإنها عندئذ تحكم بكفره كأن ينكر المتهم مثلاً إلزامية الحديث الصحيح الصريح إنكاراً لحاكمية السنة وأدعاءً بأن القرآن وحده هو الملزم. ذلك أن الأمر ههنا ينصرف من كونه مسألة حكمية عملية إلى كونه مسألة عقدية إيمانية. وقضايا التكفير إنما هي قضايا كفر وإيمان أي أنها مسأئل متعلقة بالعقائد لا متعلقة بالأعمال.. فالعمل وحده إن لم يكشف عن اعتقاد كفراني فلا يعتبر مكفراً لفاعله ولو كان من الكبائر. ومثال ذلك تهكم ممثل أو استخفافه بأمر ديني. فإن كان ذلك التهكم من باب العبث والهزء فهو فسق يؤدَّب فاعله. وإن كان من باب الجحود والإنكار فهو يدخل في باب الكفر. وأما القول فهو ما كان كفراً صريحاً غير قابل للتأويل فهو بذلك القول يُعد كافراً . ويطلب إليه التوبة ويمهل ثلاثة أيام على قول وفترات أطول على أقوال أخرى. وأثناء فترة الاستتابة تُمنع زوجه من الاتصال به وتُرفع ولايته على أبنائه حتى يتوب. ولأن هذه الأمور أمور حكمية سطانية فلا يجوز أن يكون الآمر بهذا من أهل الفتوى أو مجرد عالم وإنما يجب أن يكون قاضيًا مفوضًا أو مخولاً بالدستور أو القانون أو السلطة الرسمية بالحكم في القضية والإشراف على تنفيذ الحكم القضائي.